سياسات تعليم الكبار في العالم العربي... رؤية دولية

20 نوفمبر 2017
"تعليم الكبار" مهمّش عربياً (Getty)
+ الخط -
منذ انعقاد المؤتمر الدولي الأول لتعليم الكبار (CONFINTEA) في مدينة إلسينور بالدنمارك، عام 1949، شهد مفهوم تعليم الكبار (Adult Learning) تحولاً جذرياً، حيث تطور من مجرد "تعليم بديل" لبعض الرجال والنساء، أو "تعليم تكميلي" للجميع، إلى ركيزة محورية في العملية التعليمية بمفهومها الشامل. وقد فتح المؤتمر الثالث لتعليم الكبار (CONFINTEA III)، الذي عقد في العاصمة اليابانية، طوكيو، عام 1972، أفقاً جديداً في مجال تعليم الكبار؛ إذ أشار إلى أن مستقبل تعليم الكبار يكمن في الإطار العملي للتعلم مدى الحياة.

 إطلالة تاريخية:


وفي عام 1997، اعتبر المؤتمر الدولي الخامس لتعليم الكبار (CONFINTEA V)، الذي عقد في مدينة هامبورغ الألمانية، أن التعليم مدى الحياة يمثل "فلسفة وإطاراً مفاهيمياً ومبادئ تنظيمية لجميع أنماط التعليم القائمة على القيم التحررية والإنسانية والديمقراطية". كما أكد أيضًا أن "تعليم الكبار وتثقيفهم يمثل مكوناً محورياً في عملية التعلم مدى الحياة، التي تقوم على استمرارية التعلم، وتشمل التعليم الرسمي وغير الرسمي وغير النظامي".
وقد تبنى المؤتمر الدولي السادس لتعليم الكبار (CONFINTEA VI)، الذي عقد في مدينة بيليم البرازيلية عام 2009، ما عرف بـ "إطار عمل بيليم" لتوجيه الدول الأعضاء في مجال تعليم الكبار عبر خمس مجالات عمل، هي وضع السياسات، والحوكمة، والتمويل، والمشاركة، والجودة.

ومنذ عام 2009، يواصل "معهد اليونسكو للتعلم مدى الحياة" إصدار "التقرير العالمي بشأن تعليم الكبار وتثقيفهم" (Global Report on Adult Learning and Education) بصورة دورية كآلية لمتابعة مدى التزام الدول الأعضاء بإطار عمل بيليم، وذلك من خلال جمع وتحليل البيانات والمعلومات الخاصة بالمشاركة والتقدم في برامج تعليم الكبار، وإبراز التحديات، وتقييم معدلات التغيير قياساً إلى الزمن، ونشر أفضل المشاركات؛ وذلك من أجل الدفع قدماً بهذا المجال.

نُشر مؤخراً التقرير الإقليمي بشأن تعليم الكبار في العالم العربي، عن "معهد اليونسكو للتعلم مدى الحياة"، تحت عنوان The Status of Adult Learning and Education in the Arab States: Regional Report (وضع تعليم الكبار وتثقيفهم في العالم العربي: تقرير إقليمي)، الذي تم عرضه في "استعراض منتصف المدة" ، الذي عقد في مدينة سوون، بكوريا الجنوبية، في الفترة من 25 إلى 27 أكتوبر 2017، بمشاركة "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).

يهدف التقرير إلى إبراز ما آلت إليه أوضاع تعليم الكبار في العالم العربي الذي يعيش فترة تحول اجتماعي واقتصادي وسياسي دراماتيكية منذ مطلع العقد الثاني من هذه الألفية، وهو ما فرض عليه حزمة من التحديات يمكن إجمالها – وفقاً للتقرير - في الزيادة السكانية، والفقر وزيادة معدلات البطالة، وتأجج الصراعات السياسية، وأزمة اللاجئين، والقضايا الجندرية وانعكاساتها في الفضاء الثقافي العربي، وغيرها من التحديات التي كان لها أكبر الأثر على الواقع التعليمي في المنطقة.

ونعرض من خلال هذه المقالة أبرز ما ورد في هذا التقرير عن سياسات تعليم الكبار في العالم العربي منذ عام 2009 حتى اليوم، باعتباره وثيقة مهمة تعكس أوضاع تعليم الكبار في المنطقة.


تعريف سياسات "تعليم الكبار"

تُعرف سياسات تعليم الكبار – وفقاً لـ "التقرير العالمي الثالث بشأن تعليم الكبار وتثقيفهم"  بأنها "تعبير عن النوايا يوجه العمل، ويضع الأسس، ويهيئ الظروف اللازمة لدعم فرص التعلم، ولتمكين المتعلمين الكبار من الاستفادة، بغض النظر عن أوضاعهم المتعلقة بالدين والانتماء الأيديولوجي والتوجه السياسي والطبقة الاجتماعية والعرق والعمر والنوع" (معهد اليونسكو للتعلم مدى الحياة، 2016، ص 31).

ووفقاً لما أورده التقرير، فإنه لا يوجد على مستوى العالم العربي سوى تسع دول عربية فقط، من مجموع البلدان العربية التي تجاوبت مع الدراسة المسحية التي تضمنها التقرير، تمتلك تعريفاً رسمياً لتعليم الكبار، هي الجزائر والبحرين والأردن والمغرب وعمان والمملكة العربية السعودية والسودان والجمهورية العربية السورية والإمارات العربية المتحدة. بينما لا تمتلك كل من لبنان وتونس تعريفاً رسمياً. وتتطابق هذه التعريفات مع تعريفات تعليم الكبار التي تتبناها الدول الأعضاء في منظمة اليونسكو.

خلط بين محو الأمية وتعليم الكبار

كان التوجه العام في الدول العربية هو الخلط بين "محو الأمية" و"تعليم الكبار". ومن ثم، فقد تبنت غالبية الدول العربية - على المستوى الرسمي - تعريفات لتعليم الكبار تمنح الأولوية القصوى، وربما الوحيدة، لمحو الأمية وإكساب المهارات الأساسية للمتعلمين؛ لا سيما أن محو الأمية كان يمثل الهدف الأساس لحكومات هذه الدول منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، بعد انتهاء الحقبة الإمبريالية.

رغم ذلك، فإن نطاق ومحتوى تعليم الكبار يتباين من دولة إلى أخرى في المحيط العربي. فقد تبنت بعض الدول مثل المملكة المغربية وعمان نطاقاً ضيقاً، وحصرت تعليم الكبار في محو أمية الكبار فقط. بينما تبنت دول أخرى - مثل الجزائر والبحرين والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة - مفهوماً أوسع باعتبار تعليم الكبار فرصة يجب اغتنامها للدفع بالشباب إلى استكمال مسيرة التعليم في مؤسسات التعليم الرسمية وغير الرسمية، إضافة إلى مؤسسات التعليم غير النظامي.

ففي المملكة الأردنية - على سبيل المثال – اعتبر تعليم الكبار جزءاً لا يتجزأ من التنمية الشاملة والمستدامة، على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. وفي الجزائر، تم توظيف تعليم الكبار كآلية لإتاحة فرص التعلم للشباب والكبار الذين لم يلتحقوا بالمدارس أو الذين لم تسعفهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لتلقي تعليم نظامي كاف، أو الذين يتطلعون إلى الارتقاء بمهاراتهم على المستوى التعليمي والمهني. وتؤكد بعض التعريفات على العلاقة الوطيدة بين تعليم الكبار من جانب، وإتاحة فرص العمل من جانب آخر، كما هو الحال في الجزائر والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

وتؤكد الاستجابات للدراسة المسحية التي تضمنها "التقرير العالمي الثالث بشأن تعليم الكبار وتثقيفهم" أن السودان والإمارات العربية المتحدة فقط هما من غيّرا تعريفهما الرسمي لتعليم الكبار منذ عام 2009، مع ملاحظة – وفقاً للتقرير - أن التغيير كان طفيفاً في السودان، بينما كان شاملاً في دولة الإمارات العربية المتحدة ليصبح قريباً من سياسات التعلم مدى الحياة التي تتبناها الحكومة.

رغم ذلك، فقد أوردت تسع دول عربية، هي الجزائر والبحرين والأردن والمغرب وعمان والمملكة العربية السعودية والسودان وسورية والإمارات العربية المتحدة، في إجاباتها على الدراسة المسحية أنها تمنح الأولوية القصوى لمحو الأمية واكتساب المهارات الأساسية في جميع برامج تعليم الكبار. يظهر هذا أيضاً بجلاء في استجابات الدول العربية التي يحتل فيها الكبار ذوو المستويات المتدنية في القراءة والكتابة، أو في المهارات الأساسية، قمة قائمة الفئات المستهدفة في برامج تعليم الكبار. كما حددت بعض الدول إطار سياساتها بمحو الأمية واكتساب المهارات الأساسية.

تعريف محو الأمية

  • الجزائر: تتمثل رسالة تعليم الكبار في ضمان تحقيق مستوى دائم ومتطور من محو الأمية والثقافة العامة لجميع المواطنين. في هذا السياق، يتم تقديم خدمات تعليم الكبار مجانا للشباب والكبار الذين لم يلتحقوا بالمدارس، أو لم يتلقوا تعليما كافيا، أو يطمحون إلى الارتقاء بمستواهم الثقافي، أو تحسين أوضاعهم المهنية والاجتماعية.
  • البحرين: أسست مملكة البحرين منهجية جديدة من أجل محو الأمية وزيادة المهارات الأساسية التي تمكن المتعلمين الكبار من:

- إتقان مهارات التعلم الأساسية من أجل التعبير عن أنفسهم، والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بمجتمعاتهم.

- إتقان مهارات التعلم الذاتي من أجل الاتصال بمصادر المعرفة المتنوعة.

- تطوير مهاراتهم الحياتية من أجل مواجهة مشكلاتهم على المستويين الشخصي والاجتماعي.

  • سورية: لا تنحصر حدود محو الأمية واكتساب المهارات الأساسية فقط في إتقان القراءة والكتابة، ولكنها تشمل المشاركة في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي تساعد المواطنين السوريين على أن يكونوا جزءاً من عملية التنمية.

 الإنجازات العربية قياساً على "إطار عمل بيليم"

قنَّنت أربع دول عربية خطط عمل المؤتمر الدولي السادس لتعليم الكبار (CONFINTEA VI)، وذلك في أعقاب انعقاد مؤتمر "بيليم"، وصدور إطار العمل الخاص به، وهي الأردن وعمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. إلا أن دولتين اثنتين فقط نجحتا في الوفاء بجميع مجالات العمل الخمسة التي نص عليها إطار العمل في خطط العمل الخاصة بها، وهما المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة؛ بينما تمكنت الأردن وعمان في وضع سياسات تتعلق ببعض هذه المجالات فقط. ووفقاً للتقرير، يمكن استعراض أطر سياسات تعليم الكبار وتثقيفهم على النحو التالي:

العراق: في عام 2011 وافقت الحكومة العراقية على تبني سياسة تعليمية واستراتيجية شاملة لمحو الأمية (وزارة التربية والتعليم العراقية، 2015).

موريتانيا: تعتبر الخطة العشرية الثانية للارتقاء بمستوى التعليم (2011 – 2020) أن محو الأمية يمثل أساساً للتنمية، ومن ثم، تسعى الدولة إلى توسيع نطاقه لمتابعة المتعلمين الجدد في جميع أنشطتهم الحياتية.

مصر: أصدرت مصر دستورها الجديد في عام 2014 لضمان توفير فرص تعليم مجانية ومتكافئة للأطفال والشباب المصريين في جميع مؤسسات التعليم، بدءاً من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية. ويؤكد الدستور التزام الدولة بوضع خطة للقضاء على الأمية في غضون خمس سنوات. وفي عام 2009، صدر المرسوم رقم 131 ليعدل تعريف ونطاق برامج محو الأمية؛ وذلك بهدف إتاحة فرص متنوعة لغير المتعلمين لاستئناف التعليم بجميع أنواعه ومستوياته.  

الدول التي تمتلك سياسات لإقرار وتصديق واعتماد التعليم غير الرسمي وغير النظامي:

دعا إطار عمل "بيليم" منظمة يونسكو إلى "وضع مبادئ توجيهية بشأن تحليل النتائج، بما في

ذلك تلك التي تحققت من خلال التعليم غير الرسمي وغير النظامي؛ ليتم إقرارها والتصديق عليها (معهد اليونسكو للتعلم مدى الحياة، 2010، ص 9). وبناء عليه، التزمت الدول الأعضاء "بوضع أو تطوير الهياكل والآليات اللازمة لإقرار وتصديق واعتماد جميع أشكال التعلم عن طريق ترسيخ أطر متوازية" (المرجع نفسه، ص 7).

وقد أكدت سبع دول عربية أنها كانت تمتلك بالفعل أطراً للإقرار والتصديق والاعتماد قبل عام 2009، وهي الجزائر والبحرين ومصر والأردن والمغرب والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وتعتبر سورية الدولة الوحيدة التي وضعت سياسة جديدة لإقرار وتصديق واعتماد التعليم غير النظامي منذ عام 2009. وفي البحرين تم اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقديم مسار تعليم ثانوي موازٍ حتى يتمكن المتعلمون من استكمال دراستهم والالتحاق بالجامعة. وذكرت ثلاث دول – هي لبنان وعمان وتونس – أنها لا تملك مثل هذه السياسات.


التقدم الذي أحرزته بعض الدول العربية منذ عام 2009

أكدت ثماني دول عربية أنها حققت تقدماً ملحوظاً في سياسات تعليم الكبار منذ عام 2009، وهي البحرين والأردن ولبنان والمغرب وعمان والمملكة العربية السعودية والسودان والإمارات العربية المتحدة، بينما أكدت كل من الجزائر ومصر وتونس أن تغيراً لم يحدث في سياسات تعليم الكبار لديها منذ عام 2009.

وقد نجحت الدول العربية في إظهار تقدما ملحوظا في الارتقاء بمستوى تعليم الكبار منذ انطلاق برنامج "التعليم للجميع". كما زادت نسبة تعلم القراءة والكتابة على المستوى الإقليمي بمعدل 22 نقطة مئوية، لتصل إلى 77% في عام 2011. كما أبدت البلدان العربية اهتماما أكبر في توفير برامج لمحو الأمية للكبار تستوعب نمط حياتهم، مثل انشغالهم بعمل يومي، وهو ما دفع بالمنطقة إلى أن تكون واحدة من أقل مناطق العالم من حيث أمية الكبار (منتدى التعليم في العالم، 2015، ص 9-10).

     

المساهمون