في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقعت الحكومة الانتقالية في السودان اتفاق سلام مع حركات مسلحة ظلت تقاتل في إقليم دارفور، غربي البلاد، منذ عام 2003، في حرب أوقعت 300 ألف قتيل، فيما أدت إلى تهجير أكثر من مليوني سوداني نحو مناطق أخرى، داخل البلاد وخارجها، بحسب تقديرات منظمات دولية.
توزع النازحون في مخيمات وصل عددها إلى مائة، في ولايات إقليم دارفور الخمس، وأبرزها وأكبرها مخيما كُلمة وقريضة، بجنوب دارفور، والسلام بشمال دارفور، والنيم في شرق دارفور. وتضم ولاية وسط دارفور وحدها 21 مخيماً. عانت تلك المخيمات من نقص الغذاء والمياه ومن هجمات مليشيات عليها، وانتشار الجريمة فيها، كما خرج رجالها ونساؤها من دائرة الإنتاج وبات الاعتماد كبيراً على الإغاثة التي توفرها المنظمات الدولية. وبحسب كثيرين، تسببت موجات النزوح في تفكك أسري بالرغم من التماسك الذي كان قبل الحرب، كما تسببت موجات النزوح في تخلي بعض النازحين، خصوصاً الشباب، عن قيم اجتماعية - ثقافية راسخة، نتيجة غياب الرقابة المجتمعية. ودفع النزوح كثيرات من النساء اللواتي فقدن أزواجهن إلى العمل في مهن شاقة، بما في ذلك العمل في البناء، كما واجهن مخاطر الاغتصاب في كثير من الأحيان، لا سيما في الساعات التي يقضينها في الاحتطاب خارج المخيمات.
وبعد اندلاع الحرب في الإقليم، جرت محاولات عدة لإعادة النازحين، بالإضافة إلى اللاجئين في دول الجوار مثل تشاد وجنوب السودان، إلى قراهم، خصوصاً عقب التوقيع على اتفاقيات سلام في أبوجا (2005)، والدوحة (2011)، لكنّ تلك المحاولات فشلت لعدم توفر الأمن بشكل كافٍ، وافتقار مناطق العودة لخدمات المياه والصحة والتعليم، بالإضافة إلى عدم استطاعة النازحين إعادة إعمار أو ترميم أو تجهيز منازلهم التي دمرتها الحرب.
وفي الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقعت الحكومة السودانية الانتقالية على اتفاق سلام مع حركات مسلحة تقاتل في إقليم دارفور. وقد خصص الاتفاق بنوداً تتعلق بالنازحين واللاجئين وكلّ الذين هجّرتهم حرب الـ17 عاماً. وأبرز ما نص عليه الاتفاق أن يتمتع النازحون واللاجئون بحق العودة إلى منازلهم وأراضيهم وممتلكاتهم، على أن يجري تعويضهم على نحو عادل عن الخسائر التي تكبدوها في المنازل أو الأراضي أو الممتلكات، وفي حال تعذرت عودتهم يحقّ لهم الحصول على تعويض وجبر ضرر. واشترط الاتفاق تهيئة الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية للعودة المرجوة من دون التعرض لخطر التحرش والاضطهاد والتمييز، كما إزالة الألغام من طرقات العودة، وبناء أماكن إيواء كافية في قرى ومناطق العودة الطوعية. كذلك، منح الاتفاق النازحين واللاجئين من الأطفال والحوامل والأمهات بصحبة الأطفال الصغار والنساء اللواتي يكفلن أسراً والأشخاص ذوي الإعاقة والمسنين، إمكانية الحصول على الحماية والمساعدة التي يقتضيها وضعهم والمعاملة التي تراعي أوضاعهم الخاصة. كلّ تلك البنود وغيرها تتولى، بموجب الاتفاق، مفوضية خاصة بالنازحين واللاجئين متابعة تنفيذها، على أن تتولى المفوضية كذلك تيسير جمع شمل القُصّرغير المصحوبين بذويهم مع أسرهم وذويهم.
مريم جار النبي (40 عاماً)، نزحت قبل 14 عاماً إلى الخرطوم، لتمتهن بيع الشاي في شوارع العاصمة، لا ترغب حالياً في العودة إلى ولاية غرب دارفور التي نزحت منها، لأنّها غير مقتنعة تماماً بأنّ منطقتها الأصلية آمنة الآن، بالرغم مما يرد في الإعلام.
تقول لـ"العربي الجديد"، إنّ أبناءها في الخرطوم أتيحت لهم فرص دخول المدارس، وتتمنى أن يتابعوا كلّ مراحلهم الدراسية فيها، لأنّها لا تضمن أن يحظوا بالخدمات التعليمية في دارفور. لكنّها تؤكد أنّها غالباً ما تشتاق إلى قريتها وأنّها تتمنى أن يعيش أبناؤها هناك، لكن في هذه الظروف لا تستطيع العودة، ولا تصدق كلام السياسيين وتعهدات المليشيات.
إلى حد ما يتفق معها خضر محمد علي، وهو نازح في مخيم كلمة بولاية جنوب دارفور، وشارك في مفاوضات السلام ضمن ممثلي النازحين. يقول لـ"العربي الجديد"، إنّ المخاوف من انعدام الأمن والخدمات الأساسية مشروعة، وهناك عوائق أخرى عدة تحتاج إلى عمل جاد لإقناع النازحين بالعودة إلى قراهم. يوضح علي أنّ ما جاء في الاتفاق كافٍ بنسبة 100 في المائة، إذ منح النازحين واللاجئين حق التعويض الذي قد يصل إلى 750 دولاراً أميركياً سنوياً لمدة 10 سنوات، لأنّهم فقدوا قبل رحلة النزوح كلّ شيء، من منازلهم إلى وسائل إنتاجهم، بالإضافة إلى بند إنشاء صندوق خاص بالنازحين يصل رأسماله إلى نحو 10 مليارات دولار، فـ"إذا جرى تفعيل الصندوق بالمبلغ المرصود، فسيؤدي إلى نظرة إيجابية لدى كثير من الأسر النازحة".
يتابع أنّ الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام السابق والتغيير الذي حدث لم يترك أثراً على حياة النازحين حتى الآن. ويضيف أنّ اتفاق السلام حدد أيضاً تعويضات جماعية تتمثل في توفير كلّ الخدمات الضرورية في مناطق العودة، عدا عن منح النازحين حق البقاء في المناطق الحالية على أن تجري إعادة تخطيط تلك المناطق وإقامة مجمعات سكنية كبيرة لهم في أطراف المدن التي يعيشون فيها الآن.
ويشدد علي على ضرورة توفير الأمن أولاً قبل أيّ رحلة عودة، مشيراً إلى أنّ الاتفاق أقرّ تشكيل قوة أمنية قوامها 12 ألف جندي قابلة للزيادة، لتكون مهمتها حماية المدنيين، بمن فيهم النازحون، كما أكد الاتفاق على إبعاد مستوطنين استولوا في أوقات سابقة على قرى النازحين، لافتاً إلى أنّ ذلك الإبعاد لا يعني عدم التعايش، لأنّ دارفورعرفت طوال تاريخها التعايش بين القبائل، والمصالحات في حال النزاعات، فالأرض يمكن أن تتيح الفرصة للجميع ليعيشوا معاً بعد اتفاق السلام.
ويؤكد علي أيضاً أنّ عملية النزوح نفسها تركت أضراراً مجتمعية كبيرة، إذ انقطع ارتباط الأطفال الذين ولدوا في المعسكرات أو كانوا في عمر أقل من 10 سنوات عن جذورهم، وانغمسوا في حياة المدينة، فلا يرغبون في العودة، وربما أدى ذلك إلى انفصال الأسر وتفككها، والتحدي الآن هو إقناع أولئك بأهمية العودة من ناحية أسرية ومجتمعية وربطهم بأرض وموروثات أجدادهم، مع تشجيعهم على الانغماس في الحياة الجديدة، وإعادتهم إلى دائرة الإنتاج الريفي حيث تتعدد فرصه في مناطق العودة، مثل الزراعة والتجارة وتربية المواشي.
من جهته، يرسم الصحافي المقيم في ولاية جنوب دارفور، محجوب حسون، صورة قاتمة لحياة النازحين في مخيماتهم، خصوصاً النساء اللواتي يواجهن ظروفاً صعبة، إذ إنّ من فقدن أزواجهن ولديهن أطفال يواجهن مشقات في تربيتهم، بعدما تُركن بلا مأوى سوى مخيمات النزوح. ويشير إلى أنّ هؤلاء يضطررن مع نقص الغذاء في المخيمات إلى العمل في الخدمة المنزلية في المدن الكبيرة وغيرها من المهن الصعبة. ويتوقع حسون بروز عوائق في طريق عودة النازحين واللاجئين، أولها استحالة توفير التعويض الكافي لهم، الذي حدده اتفاق السلام الأخير بين الحكومة والحركات المسلحة، خصوصاً مع شح إيرادات الدولة السودانية التي تواجه ظروفاً مالية صعبة، مع صعوبة أخرى تتعلق بالحصول على دعم دولي في ظلّ الأزمة العالمية بعد انتشار فيروس كورنا. العائق الثاني، بحسب حسون، يرتبط باحتلال أراضي النازحين، سواء كانت سكنية أو زراعية، وقد مضى على ذلك 17 عاماً، ما يعني أنّ تجربة اتفاق السلام الشامل تظل حبراً على ورق، والنتيجة النهائية هي مدى تنفيذ اتفاق السلام في محاوره الأمنية والاقتصادية والاجتماعية حتى يقتنع النازحون بالعودة.
من جانبه، يقول موسى عبد الله، المهتم بملف دارفور، إنّ عودة النازحين واللاجئين في مناطق الحرب بإقليم دارفور تحديداً إلى قُراهم، واحدة من المطالب الأساسية للسودانيين بعد الثورة والتغيير، وهي من البنود الأساسية التي تمت مناقشتها والتفاوض حولها بين الحكومة الانتقالية وحركات الكفاح المسلح بعاصمة جنوب السودان، جوبا. وبحسب ما آلت إليه المفاوضات، فقد تمّ الاتفاق بشأنها. وهي في المقابل من المطالب التي يتمترس خلفها رئيس حركة تحرير السودان، عبد الواحد محمد نور (لم تدخل الحركة في الاتفاق بعد، رغم المساعي لضمها إليه). وقد اشترط بقسوة أن تستكمل العودة حتى قبل جلوسه إلى طاولة التفاوض مع الحكومة الانتقالية، وبالتالي إذا تمّت عودة النازحين إلى قُراهم ومناطقهم، يكون قد انتفى شرطه القاسي. ويوضح عبد الله لـ"العربي الجديد": "بالنظر إلى الواقع، لا أعتقد أنه سيتم ذلك الآن، أو قريباً، لأنّ ذلك يستلزم اجراءات عدة، وعمليات للتأهيل النفسي والاجتماعي، وهذا كله يستلزم أموالاً طائلة، ليس للحكومة الانتقالية قدرة عليها، إذا لم يتدخل الداعمون الدوليون والإقليميون فيها"، مطالباً بإجراء مصالحات اجتماعية شاملة بين القبائل قبل العودة، حتى لا يضطر النازحون إلى ترك مناطقهم والنزوح مرة أخرى.