لا تمنع الظروف المعيشية السيئة والأزمات المتفاقمة سكان قطاع غزة من متابعة مباريات مونديال 2022، وهم يتجاوزون مشاكل انقطاع الكهرباء المزمنة، عبر اشتراكات في مولدات المناطق، وعبر بطاريات الشحن التي خصصوها لتشغيل التلفاز، أو من خلال التجمع في المنازل للمشاهدة عبر قناة "أمواج" الأرضية التي تعرض كل المباريات، والتي ساهمت قطر في دعمها للتخفيف عن عشاق كرة القدم.
وتعد فترة المونديال مصدر رزق مهمة للمقاهي، وللعاملين فيها، ففي حي النصر بمدينة غزة، والذي يعتبر من أكثر الأحياء التي تضم مقاهي تعرض مباريات أبرز الدوريات العالمية والعربية، تنتشر شعارات كأس العالم، وحرصت بعض المقاهي على تحديد أسعار المشروبات أثناء المباريات، في ظل أزمة اقتصادية كبيرة يعيشها القطاع منذ سنوات.
كان صاحب مقهى "سهارى"، زكريا عبد الرحمن، يملك مقهى كبيراً داخل "المجمع الإيطالي" في عام 2014، حينها كان معظم أصحاب المقاهي قد أعادوا تجديدها استعداداً لانطلاق مونديال البرازيل، لكن المكان تعرّض لقصف دمر المجمع الذي كان يضم عدداً من أبرز المقاهي في قطاع غزة، والتي كانت تجمع الآلاف خلال المباريات النهائية للبطولات العالمية، مثل كأس العالم، وكانت تتيح شاشات عرض كبيرة في ساحة المجمع الخضراء.
لم يحصل عبد الرحمن على تعويض عن تدمير مقهاه سوى بعد ثلاثة أعوام من العدوان الإسرائيلي، وقام لاحقاً بافتتاح مقهى في حي الرمال، لكنه تعرض مجدداً لخسائر كبيرة، بسبب أزمة جائحة كورونا، وقد أعاد افتتاح المقهى قبل ثلاثة أشهر فقط.
يقول عبد الرحمن لـ"العربي الجديد": "أجواء المونديال تزيد اللقاءات الجماعية، فالغالبية يفضلون المتابعة ضمن مجموعات وليس بمفردهم في المنازل. قمت بعمل عرض يجعل تكلفة المشروب أثناء المباراة 3 شواقل (0,8 دولار أمريكي) من أجل جذب الزبائن، والكثير من المقاهي فعلت الشيء نفسه، لكننا للأسف نعاني مثل كثير من القطاعات، من قلة الإقبال بسبب تراجع القدرة المالية للناس".
وقامت لجنة الإعمار القطرية في قطاع غزة بحجز "صالة سعد صايل" في شارع الثورة، أحد أهم شوارع وسط المدينة، لتتيح مشاهدة المونديال للغزيين عبر شاشات عرض كبيرة، كما رفعوا في داخل الصالة أعلام المنتخبات العربية الأربعة المشاركة، والتي بات الجمهور يشجعها جميعاً مع منتخباته المفضلة.
يحضر أحمد حجاج يومياً من حي الشجاعية لمتابعة المباريات في الصالة، ويعتبر أن هذه الفترة مهمة لتناسي الهموم الروتينية، فالحديث يتحول من المعاناة اليومية إلى أحداث المونديال. يقول حجاج لـ"العربي الجديد": "أنا أب لسبعة أبناء، وهذه فترة استراحة. نتحدث عادة عن الغلاء، والبنزين، والكهرباء، والشتاء وغيرها من التفاصيل المرهقة، لكن خلال فترة المونديال، نتحدث عن اللقطات الطريفة، والتوقعات، والمفاجآت، والصدمات، وإصابات اللاعبين وغيرها، ونشعر بنوع من الفرحة. في غزة مشجعون متعصبون مثلي، وأبنائي ورثوا عني حب كرة القدم".
داخل "صالة سعد صايل"، يوجد زايد عوض مع طفليه تيّم (6 سنوات) ويزن (8 سنوات)، ويقول إنهما قررا أن يعيشا جو المونديال معه، وإنهما يشعران بالسعادة لتشجيع الفرق العربية، والتعرف على أسماء اللاعبين، وبعض البلدان، وثقافتها وأعلامها، فالمونديال فرصة ليتعرفا على قيمة تشجيع المنتخبات العربية التي توحدها اللغة والثقافة.
يقول عوض لـ"العربي الجديد": "نعيش في مجتمع محاصر، ولا مطار لدينا حتى يأتينا زوار، ولغة كرة القدم أسرع في توحيد الشعوب، كما أن العرب يتضامنون مع الفلسطينيين مهما كانت الظروف، وهذا درس مهم لأبنائي، وقد جئت بهم مع شقيقي الأكبر الذي يشجع منتخب البرازيل، وأنا أشجع الأرجنتين، وبعد خسارتها من السعودية فرحت، وشجعت السعودية".
في قطاع غزة، تحظى منتخبات الأرجنتين والبرازيل والبرتغال وفرنسا بتشجيع كثيرين يتابعون أسماء اللاعبين اللامعة مع أنديتهم، والكثيرون يحبون المنتخب الأرجنتيني كونه "منتخب ميسي"، وكذلك بسبب رفض الأرجنتين مرتين اللعب مع منتخب الاحتلال بسبب انتهاكاته حقوق الفلسطينيين، أولها كانت مقررة في مدينة القدس المحتلة، ضمن استعدادات الأرجنتين لمونديال روسيا في عام 2018، استجابة للضغوط الفلسطينية، ومطالبة اتحاد الكرة الفلسطيني آنذاك.
كما ألغى الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم مباراة ودية أخرى مع المنتخب الإسرائيلي كانت مقررة في مايو/أيار الماضي، استجابة لطلب نادي الخضر الفلسطيني، والذي استشهد لاعبه محمد غنيم (21 سنة) برصاص الاحتلال في إبريل/نيسان الماضي، وحظي هذا الموقف بتغطية واسعة من وسائل إعلام أرجنتينية وأجنبية، وتعتبر استجابة للشعب الفلسطيني، مما زاد من حرارة تشجيع الفلسطينيين للأرجنتين في المونديال.
يمتلك الغزيون ذكريات صعبة مع المونديالات السابقة، إذ إنهم في عام 2006، وأثناء مشاهدتهم مباريات مونديال ألمانيا، قصفت طائرات الاحتلال محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع، في أعقاب خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ومنذ ذلك الحين لم ينعم سكان غزة بكهرباء متواصلة في منازلِهم ومنشآتِهم المختلفة، ودخلوا في نمط حياتي جديد يتزامن مع أزمات متراكمة، حتى سقط عدد من الضحايا بسبب انقطاع التيار الكهربائي، والاعتماد على وسائل بديلة تسببت في حرائق، لكنهم لم يكرهوا كرة القدم، بل زاد حبهم لها، ولم تمنعهم الأزمات من متابعة المونديال، إذ يتكرر التجمع في المقاهي والكافيتريات مع حلول كل مونديال.
وأثناء متابعة الغزيين مونديال البرازيل في 2014، اندلع عدوان إسرائيلي استمر 51 يوماً، ومن بين الشهداء، سقط أربعة من أطفال عائلة بكر، بعد أن أصابتهم قذيفة إسرائيلية مباشرة أثناء لعبهم الكرة على الشاطئ، كما استشهد ستة غزيين إثر غارات جوية إسرائيلية على بحر خان يونس جنوبي القطاع، أثناء مشاهدة مباراة الأرجنتين وهولندا في الدور نصف النهائي من مونديال البرازيل، فحولت شغفهم وحبهم للكرة إلى أحد أوقات الخطر، ثم حولت بعضهم إلى شهداء، بينما أصيب أكثر من 15 جراء هذا القصف.
يقول عمر صباح لـ"العربي الجديد": "شعب غزة متابع جيد للمباريات، حتى لو كانت فوقه الطائرة الإسرائيلية. نحن أكثر الشعوب في العالم التي تعرف كيف تتكيف مع أي رياضة نمارسها، أو نشاهدها، وعند حضور المونديال يتأجل التفكير في الهموم السياسية والاجتماعية والنفسية".
ويضيف: "لا ننسى من تضامنوا معنا من الفرق المشاركة في المونديال، حتى أنني شجعت إيطاليا في كأس العالم 2006، لأنه المنتخب الوحيد الذي أهدى كأس العالم للشعب الفلسطيني في عام 1982، في وقت كان كثيرون لا يعترفون بوجودنا، والمونديال دائماً مناسبة للفت الأنظار إلينا كشعب وإلى معاناتنا الكبيرة".