تحتضن مدينة ميلة قرب قسنطينة، شرقي الجزائر، مسجد سيدي غانم الأول، الذي بُني في البلاد لدى وصول قوافل الفاتحين عام 59 للهجرة. لكن هذا المسجد ذا الرمزية التاريخية والدينية لا يلقى الاهتمام المطلوب لترميمه والاعتناء به، رغم أن نداءات عدة وجهت لتنفيذ ذلك.
يُبدي كريم بن رجم (59 عاماً)، وهو صاحب محل لبيع المواد الغذائية في المدينة العتيقة في ميلة، حسرته على ما آلت إليه المدينة، رغم الوعود بترميمها وإنقاذها من الانهيار، في حين ما زال يحتفظ بذكريات أماكنها وزواياها التي يعتبر أنها تتجسد "في التاريخ والعائلة واللمة والأزقة الضيقة والعيون ذات المياه العذبة والحفلات الموسيقية المألوفة وسهرات شهر رمضان، وماء الزهر المقطّر".
تقع مدينة ميلة الصغيرة، التي تعرف أيضاً باسم "ميلاف"، عند تخوم عاصمة الشرق الجزائري قسنطينة، وتبعد 490 كيلومتراً عن العاصمة الجزائرية، لكن معالمها ظلت منسية أو تصارع النسيان رغم أن حضارات مختلفة تعاقبت عليها. وهي حالياً مدينة مليئة بالأسرار والتاريخ، إذ يتحدث الجميع عن عمق التاريخ في هذا المكان ومعالمه التي تشهد على فترات زمنية، أبرزها مسجد سيدي غانم، الذي ما زال يصارع الزمن بعدما شيّدت القوات الفرنسية خلال فترة الاستعمار ثكنة عسكرية إلى جانبه، وحوّلت بعض معالمه إلى بناء مغطى من أجل إخفاء أقواسه إثر هدم مئذنته.
ويختزل مسجد سيدي غانم آلاف السنين من حكاية ميلة، المدينة ذات التسمية الرومانية التي تعني مدينة الألف منبع أو ألف مصدر للماء من عيون كثيرة حملت بعض المناطق أسماءها، مثل عين التين وعين الكبيرة وعين مارشو وعين سيدي خليفة وعين وادي النجاء وعين البلد التي تستوطن قلب المدينة القديمة، ما جعلها بعد قرون من الزمن تحتضن أكبر سد في الجزائر وأفريقيا ضمن خمس ولايات شرق الجزائر. كما حافظت أراضي مدينة ميلة على البساتين الخضراء والمزروعات الغذائية، مثل القمح والشعير والتفاح والزيتون والعنب.
مركز الفاتحين
ويمتد السور الروماني الذي يحيط بالمدينة وسوقها الشعبي وبيوتها العتيقة على مسافة 1200 متر، وهو لم يكن قبل عقود سوى حصن منيع احتمت به الجيوش التابعة للغزاة في بعض مراحل التاريخ الجزائري. أما جامع سيدي غانم، فما زال حتى اليوم يدل على حضارة عمّرت طويلاً، وهو معلم من المعالم التاريخية التي تصارع الزوال والاندثار وسط إطلاق دعوات متواصلة لترميمه.
ويصف الباحث في علوم التاريخ والآثار بجامعة قسنطينة، علي بن حمادة، في حديثه لـ"العربي الجديد"، ميلة بأنها "عاصمة الفتوحات الإسلامية التي عرفتها الجزائر". ويوضح أن القائد أبو المهاجر دينار دخل المدينة خلال غزوة التابعي الجليل عقبة بن نافع شرقي الجزائر، من أجل نشر الإسلام، وشيّد مسجد سيدي غانم الأول في الجزائر عام 59 للهجرة الموافق 678 ميلادياً.
وهكذا ارتبطت مدينة ميلة تاريخياً بأول جامع بني في الجزائر، حين كانت مركزاً لجنود الفاتحين، وباكورة الفتوحات الإسلامية التي شملت مناطق عدة متاخمة للحصن الروماني، وفق الرواية التاريخية. ويقول بن حمادة إن "أبو المهاجر دينار مكث في ميلة سنتين، ثم بقي مسجد سيدي غانم شاهداً على رمزية الحضارة الإسلامية وقيمتها الثقافية والدينية".
المنارة الأعظم
وفي شأن تسمية مسجد سيدي غانم، فهي مرتبطة بأحد الأولياء الصالحين ورجال العلم والمعرفة في المنطقة. يوضح بن حمادة أنه "مع الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830، جرى تدمير منارة الجامع، وبقيت أقواسه فقط شاهدة عليه".
ويذكر مؤرخون، بحسب بن حمادة، أن "المنارة كانت من أعظم منارات بلاد المغرب وشمال أفريقيا، وكانت تضم 365 درجة بعدد أيام السنة. ولدى بلوغ الزائر درجته الأخيرة، يشاهد أبواب مدينة قسنطينة، عاصمة الشرق الجزائري".
ويحتفظ الموقع الأثري لميلة القديمة بلوحة فنية رسمها الفنان الفرنسي دو لامار لمنارة الجامع عام 1842، وتعد حالياً أهم لوحة فنية للمعلم الإسلامي.
ويذكر الباحث في علم الآثار بجامعة باتنة، عبد الكريم سعداني، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "رسام اللوحة كان من الفنانين الفرنسيين الذين أرسلوا إلى الجزائر من أجل رسم الآثار الرومانية في مختلف مدن الجزائر، بهدف تبرير احتلال الجزائر باعتبار أنها امتداد جغرافي لأوروبا".
وتشير أبحاث إلى أن المنارة بُنيت على أنقاض صومعة لدار عبادة مسيحية. وبعد هدمها، استخدمت حجارتها لبناء كنيسة خلال فترة الاستعمار الفرنسي بهدف طمس الهوية الجزائرية الإسلامية. لكن بعد استقلال الجزائر، اكتشفت، أثناء تنفيذ حفريات عام 1968، كنيسة رومانية مسيحية تحت أنقاض أقواس جامع سيدي غانم.
مدينة الألف منبع
وبحسب سعداني، تكشف الأبحاث أن المدينة احتضنت مقرين للهيئات الدينية المسيحية الأولى في عامي 402 ميلادي و416 ميلادية. وترأس المقر الأخير القديس أوغستين الذي انتشرت حركة التّنصير في عهده، خاصة بعد هزيمة "الوندال" (القبائل الجرمانية الشرقية) على يد البيزنطيين، والذين دام حكمهم في المنطقة حتى عام 674 ميلادي.
ميدانياً، باشرت مديرية الثقافة في ولاية ميلة عمليات ترميم للمسجد، لكنها توقفت لفترات، عدة مرات، قبل أن تطلق مجدداً، خاصة أن المعلم التاريخي ما زال يحافظ على أرضيته وأقواسه التي ترتبط بذاكرة من صفحات التاريخ الجزائري.
وحملت ميلة أسماء عدة تشير إلى مختلف الحضارات التي مرت عليها. ويقول بن حمادة: "كانت تسمى أمْلُو، وهي كلمة أمازيغية تعني الظل، باعتبار أن المنطقة وافرة الظلال بسبب الأشجار والبساتين الكثيرة التي تحيط بها، ومزروعات القمح والتفاح، وأيضاً ميليوس لدى البيزنطيين قبل أن تتحوّل إلى لوفيثانا لدى الوندال، والكلمتان تعنيان مدينة الجمال. ثم أطلق عليها الرومان اسم ميلاف، وتعني مدينة الألف منبع لأنها كثيرة المياه العذبة، وبعدها اسم ملاح الذي أطلقه عليها المسلمون، ثم استقر الاسم على ميلة حتى اليوم".