بعد النداء الذي أطلقه قسم الطوارئ في مستشفى النجاح بمدينة نابلس شمالي الضفة الغربية، المعروف بـ"كود بلو" الذي يشير إلى أنّ ثمّة شخصاً بالغاً يعاني من طارئ صحي يكون في العادة توقّف القلب أو الرئتين، توجّه الممرّضان الفلسطينيان أحمد الأسود وإلياس الأشقر من قسم العناية المكثفة ورعاية القلب إلى قسم الطوارئ. هناك، وجدا الأسرّة وقد امتلأت بالمصابين من جرّاء العدوان الإسرائيلي الواسع على البلدة القديمة في نابلس. أمّا المفاجأة التي أتت مثل الصاعقة، فكانت وجود والد إلياس الأشقر بين هؤلاء.
وكان العدوان الإسرائيلي الذي وقع صباح أوّل من أمس الأربعاء، قد أسفر عن سقوط 11 شهيداً وأكثر من 100 مصاب، ستّة منهم في خطر بالغ.
يخبر أحمد الأسود "العربي الجديد": "بدأنا فوراً بالعمل على إنقاذ مصاب يعاني من توقّف قلبه الذي اخترقته رصاصة مباشرة. فشقّ الطبيب الجرّاح صدره، فيما كنت وإلياس نساعده وقد أجرينا له إنعاشاً للقلب بأيدينا من دون أن ننظر إلى وجهه. ما كان يهمّنا هو إنقاذ حياته وليس التعرّف إليه".
يضيف الأسود: "كنّا نعمل في ظلّ ظروف بالغة التعقيد وغير مسبوقة، ومع كلّ مصاب فريق طبي متكامل، علماً أنّ الإصابات كانت تتوالى فيما الدماء في كلّ مكان". ويتابع: "بقينا مع ذلك المصاب أكثر من 30 دقيقة، وقد أخرجت في خلالها كلّ ما تحويه جيوبه، خصوصاً أوراقه الثبوتية بهدف التوثيق لاحقاً. وضعت بطاقته الشخصية في جيبي (من دون الاطلاع عليها) وأكملت العمل إلى حين أعلن الطبيب أنّه فارق الحياة. في تلك اللحظة نظر إلياس إلى وجه الشهيد قبل تغطيته، وإذ به يصيح بأعلى صوته: هذا أبوي (أبي). فوضعت حينها يدي في جيبي، بعفوية، وأخرجت البطاقة منه. بالفعل كان الشهيد عبد الهادي الأشقر.. والد زميلي إلياس".
في تلك اللحظة، ساد صمت مطبق قسم الطوارئ، ولم يجد الأطباء والممرضون وحتى أقارب المصابين الآخرين أيّ كلمات معبّرة. ويقول الأسود: "احتضنت إلياس وقلت: هنيئاً له الشهادة. وتوجّهنا معاً إلى غرفة مجاورة. كان متماسكاً، وراح يدعو لأبيه بالرحمة. وعندما وصل إخوته، طلب منهم أخوهم عدم الصراخ وضبط أعصابهم. لكنّ أحدهم راح يصيح بأعلى صوته عندما وصل إلى السرير حيث يرقد والده شهيداً".
مأساة تتكرّر
تكرّر ما جرى مع الممرض الأشقر، نظراً إلى أعداد الشهداء والمصابين المرتفعة. فقد حاول المسعف في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني محمد بعارة وفريقه لأكثر من أربعين دقيقة الوصول إلى عجوز أصيب في داخل إحدى حارات البلدة القديمة برصاصات عدّة. ولم يتعرّف بعارة إليه إلا بعد إعلان طبيب الطوارئ استشهاده. حينها تبيّن أنّه الشهيد عدنان بعارة (72 عاماً) عمّ المسعف.
يقول بعارة لـ"العربي الجديد: "كان الاحتلال يطلق النار على كلّ من يتحرّك. وأبو أشرف (عدنان بعارة) رحمه الله بقي ينزف طويلاً حتى صفّي دمه. وعندما حاول شاب سحبه، أصيب بدوره برصاصة في يده. لذلك كان الوصول إليه مجازفة كبيرة، لكنّنا نجحنا في ذلك، وأجرينا له في الطريق للمستشفى تنفساً اصطناعياً ومحاولات إنعاش، من دون أن أنظر إلى وجهه الذي كان مغطى بالتراب والدماء. وبعد إعلان استشهاده، رحت أتمعّن به وقلت لزميل إلى جانبي إنّ وجهه مألوف لديّ. فردّ: هذا اللولو بعارة. كان هذا لقب أبو أشرف في نابلس". لم يستطع المسعف إخبار والده بأنّ عمّه استشهد، بل قال له إنّه مصاب وأغلق الهاتف.
ويتابع المسعف بعارة أنّ الشهيد لم يكن يحمل بطاقة شخصية، وهو ما صعّب التعرّف إليه في بادئ الأمر. لكنّ عُثر لاحقاً على إيصال باسمه في جيبه، كانت قد أصدرته في اليوم نفسه بلدية نابلس، تؤكد فيه أنّه سدّد ما عليه من مستحقات لها في مقابل الخدمات التي تقدّمها من مياه وغيرها.
ويلفت بعارة إلى أنّ المسعفين يتعرّضون كثيراً إلى مثل هذه المصادفات، ويُفاجأون بأنّ المصابين أو الشهداء الذين يسعفونهم هم من أقاربهم أو جيرانهم، "لكنّ الواجب المهني يتطلب قبل كلّ شيء تقديم العلاج لهم".
حالة استنفار
العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في نابلس التي أسفرت عن اغتيال المقاومَين في مجموعات عرين الأسود حسام اسليم ومحمد أبو بكر الجنيدي، إلى جانب خمسة من عناصر العرين، وثلاثة مسنّين وطفل، استدعت تدخّل كلّ الفرق الإسعافية في نابلس. فشاركت في نقل المصابين تباعاً إلى المستشفيات الحكومية. وبعدما اكتّظت بهم، استعانوا بالمستشفيات والمراكز الطبية الخاصة.
من جهته، يفيد جرّاح العظام في المستشفى العربي التخصصي عامر الشحروري "العربي الجديد" بأنّ "المستشفيات أعلنت حالة استنفار قصوى، واستدعي الأطباء من كلّ التخصّصات. وكان يُصار إلى تحويل الجرحى من أقسام الطوارئ إلى غرف العمليات (...) ولولا هذا التدخّل السريع والإتقان في العمل لكانت فاتورة الشهداء قد تضاعفت"، مشيراً إلى أنّ "مصابين عديدين ما زالوا في غرف العناية المكثفة".
يضيف الشحروري أنّ "ثمّة إصابات كثيرة طاولت الأطراف، الأمر الذي أدّى إلى تهشّم أيادي وأرجل الجرحى. وهذا أمر يشي باستخدام الاحتلال أنواعاً محرّمة من الرصاص".
وحتى فجر يوم أمس الخميس، كان الشحروري يجري مع فريقه عمليات جراحية للمصابين. ويقول: "الحمد لله أنّنا وفّقنا في إنقاذ أرواح كثيرين، وفي منع حالات بتر كانت شبه مؤكدة لأطراف جرحى كثيرين أيضاً". ويؤكد أنّ "الطواقم الطبية استبسلت وبذلت جهداً كبيراً، وهذا واجبنا تجاه أبناء شعبنا".
في سياق متصل، يشيد مدير جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية في محافظة نابلس غسان حمدان بأداء تلك الطواقم. ويقول لـ"العربي الجديد": "كان الجرحى يتساقطون أمامنا واحداً تلو الآخر، فجنود الاحتلال كانوا يطلقون الرصاص تجاه المتظاهرين من داخل الآليات العسكرية، فيما القناصة على أسطح المباني العالية".
ويتحدّث حمدان عن "الصعوبة التي كانت تكمن في الوصول إلى المصابين في داخل البلدة القديمة. فالمنطقة معقّدة جداً؛ الأزقة ضيقة ولا تستطيع سيارات الإسعاف الدخول إليها. لذلك راح المسعفون يخاطرون بحياتهم، وينقلون المصابين على حمّالات، أو على أكتافهم، لمسافات طويلة قبل وضعهم في سيارات الإسعاف".
يضيف حمدان أنّ "ما زاد من صعوبة الأمر كذلك هو وقوع الهجوم في وضح النهار، نحو الساعة العاشرة صباحاً، وتركّزه في منطقة السوق الشرقي في نابلس، وهي من أكثر المناطق اكتظاظاً بالناس، خصوصاً من كبار السنّ الذين يقصدونها في مثل هذا الوقت لشراء احتياجاتهم، وهؤلاء لا يشكّلون أيّ خطر على جنود الاحتلال المدجّجين بالسلاح... لكنّ المحرّك هو الرغبة في القتل والانتقام من كلّ ما هو فلسطيني".