مجازر مخيم جباليا| عن مذبحة مهولة وأربعة أطفال يتامى لعائلة عبيد (5)

16 نوفمبر 2024
يحمل طفلة بعد الغارات الجوية الإسرائيلية على مخيم جباليا، في 31 أكتوبر 2023 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يصف الكاتب معاناة أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، حيث ارتكب الجيش الإسرائيلي مجازر منذ أكتوبر 2023، ويعبر عن خذلانه لتأخر توثيق الجرائم، مشيرًا إلى الحياة الجماعية في المخيم.
- في يوليو 1997، غرق محمد عبيد في بحر غزة، مما أثار حزنًا في حي السنايدة، حيث أجلت العائلات حفلات زفاف تضامنًا، وتأثر شقيقه مجدي بشدة قبل أن يصبح مصورًا.
- في 31 أكتوبر 2023، قصف إسرائيلي أدى لاستشهاد مجدي وزوجته وطفلهما، تاركين أربعة أيتام، حيث نزح والد زوجته بهم إلى جنوب القطاع، معبرين عن معاناة الأطفال اليتامى.

لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.


ثمّة حياة حقيقية خفيّة في مخيم جباليا لا يعرفها إلا أبناؤه، كما أن هناك معطيات مشتركة ومشاعر صادقة بداخل هذا المجتمع، لدرجة أنك لو أوقفت أي شخص بالغ وسألته عن الجدول اليومي لجاره سيخبرك به بالتفاصيل. ومن زاوية أخرى، يحزن السكان بشكل جماعي، ويتقاسمون ساعات الفرح، كل شيء هنا يأخذ شكله الجمعي، حتى إنهم يُستشهدون وتتمزق أجسادهم جماعات في خضم حرب إبادة إسرائيلية سافرة.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، ففي صبيحة منتصف يوليو/ تموز من عام 1997، وفي حي السنايدة "بلوك 6" الواقع في عمق مخيم جباليا، كان قد انتشر صراخ ونحيب النساء، حين حل طاقم من الشرطة البحرية يخبر الجارة الحاجّة أم ماجد عبيد بغرق ابنها محمد البالغ 19 عاماً في بحر غزة، وبأنهم لم يعثروا بعدُ على الجثة.

عمّ الحزن واتجهت جميع نساء الحي باكيات إلى منزل الحاجّة أم ماجد، كأنّ محمد ابنهن أو أخوهن جميعاً. كان عمري آنذاك ستة أعوام، الشاب محمد عبيد كان طويل القامة حليق الذقن، مفتول العضلات، يرتدي دوماً قميصاً أبيض، حين كان يمر من أمامي، كنت أرى عملاقاً يقترب مني.

لكنّ.... البحر ابتلعه، بحثت الشرطة البحرية طيلة ثلاثة أيام عن جثته، في ذلك الوقت كانت الحارة تقف على قدم واحدة، نساء الحي مجتمعات في منزل الأم المكلومة، فيما ينتشر الرجال في الأزقة، في انتظار أي خبر يفيد بإيجاد الجثة.

في اليوم الرابع، عُثر على جثة الشاب الغريق محمد وقد أكلت الأسماك جزءاً من أذنيه، حين أحضر جثمانه، اجتاح صوت البكاء الجماعي الحي بجميع فئاته العمرية ومختلف أجناسه. نُصب بيت العزاء في منتصف الحي، وتحوّلت الأيادي إلى خلية النحل، نساء الحي منهمكات في إعداد الطعام، فيما عهد لنا نحن الصغار بمهمة تنظيف الأزقة بعد رحيل المعزين. امتد الحزن على الغريق قرابة أربعة أشهر، بعض العائلات أجّلت حفل زفاف أبنائها، تضامناً مع الحاجّة أم ماجد.

الشقيق الأصغر لمحمد ويدعى مجدي، كان يكبرني بخمسة أعوام تقريباً، لم يتقبل رحيل شقيقه المفاجئ، تحوّل بشكل مفاجئ إلى فتى صامت، بعد أن كان عبارة عن كتلة من الحيوية. مرت السنوات، فأصبح مجدي شاباً، تقلّب في عدة مهن، آخرها كان مصور استديو، يغطي كل المناسبات والأفراح في المخيم. ثم تزوج من هديل التلمس (33 عاماً)، وأنجب منها خمسة أطفال، هم: حلا (13 عاماً)، غزل (11 عاماً)، سلمى (8 أعوام)، محمد (10 أعوام)، وأصغرهم أحمد (أربعة أعوام).

الشهيد مجدي عبيد يلتقط صورة سيلفي (العربي الجديد)
الشهيد مجدي عبيد يلتقط صورة سيلفي (العربي الجديد)

أيتام في مخيم جباليا

مرت الأيام تطوي بعضها، وعصر يوم 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، احتمى مجدي وأطفاله وزوجته وأهلها الذين نزحوا من حي الشيخ رضوان في المنزل المغطى بالقرميد في المخيم. لكن في لحظة أصبح ذلك المكان عبارة عن حفرة كبيرة، حين ألقت الطائرات الحربية الإسرائيلية قرابة ستة قنابل على حي السنايدة، وشطبت أغلب سكانه. وصل عدد الشهداء قرابة الـ 600 شهيد. صنفت هذه المذبحة بأكبر مجزرة ارتكبها الجيش في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

شهداء مخيم جباليا من عائلة عبيد (العربي الجديد)
 الجد مازن التلمس والأطفال الأربعة من عائلة عبيد (العربي الجديد)

استشهد مجدي وزوجته هديل وطفله الصغير أحمد، تاركين خلفهما أربعة أطفال أيتام، وسط هذه الإبادة المستمرة منذ عام. من بين الناجين في المجزرة مازن التلمس (55 عاماً)، وهو والد هديل وجدّ الأطفال الأربعة، تعرض لبتر في ساقه اليمنى، لكن هذا لم يمنعه أن يكون المعيل الأول لأحفاده. رغم جراحه الجسدية والمعنوية، جرَ نفسه وأخذ الأطفال معه ونزح بهم إلى جنوب القطاع، وما زال الأطفال الصغار الأيتام يعيشون في خيمة على مشارف مدينة دير البلح.

شهداء مخيم جباليا من عائلة عبيد (العربي الجديد)
الطفلة اليتيمة غزل مجدي عبيد (العربي الجديد)

بصعوبة بالغة جرى الوصول إلى الطفلة حلا، التي قالت عبارة اختزلت مرارة الحكاية: "بابا وماما استشهدا، نموت في اللحظة ألف مرة، ننتظر أن يسقط على الخيمة صاروخ حتى نلتحق بهما".

الطفلة اليتيمة حلا مجدي عبيد (العربي الجديد)
الطفلة اليتيمة حلا مجدي عبيد (العربي الجديد)
شهداء مخيم جباليا من عائلة عبيد (العربي الجديد)
الطفلة اليتيمة سلمى مجدي عبيد (العربي الجديد)

والدي الشهيد خليل أبو الطرابيش تربى يتيماً، لم يرَ والده قط، أخبرني مرة: "حين تعيش بدون أب، كأنك ترى الحياة بعين واحدة، هناك فراغ كبير في حياتك، لا يمكن لأي أحد تعويضه". أتساءل هنا عن حال الأطفال اليتامى الذين يعيشون في خيام وسط حرب تجويع تطاول قرابة مليون ونصف مليون نازح وسط قطاع غزة؟!

شهداء مخيم جباليا من عائلة عبيد (العربي الجديد)
الطفل اليتيم محمد مجدي عبيد (العربي الجديد)
المساهمون