استمع إلى الملخص
- خليل الصيداوي نظم جهودًا محلية لتوفير الطعام والرعاية الطبية خلال الحصار، وفي مايو 2024، شنت إسرائيل حملة عسكرية جديدة أدت إلى دمار واسع.
- انتهت الحملة بدمار كبير وفقدان العديد من الأرواح، بما في ذلك خالتي حنان، ونجا وائل ابنها ببتر في ساقه، بينما يعيش أحمد الصيداوي في حزن عميق.
لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه، أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء..
في قلب مخيم جباليا شمال غزّة، كانت خالتي حنان، البالغة 56 عاماً، تعيش برفقة زوجها يوسف الصيداوي، وهو أسير سابق قضى في سجون الاحتلال قرابة 14 عاما، ولديها منه ثمانية أبناء. تنفرد عن بقية خالاتي العشر، بعفويتها الشديدة وبساطتها في الحوار والعيش، متسامحة لدرجة أنها لم تفتعل أي إشكالية مع محيطها طوال عمرها.
في ثالث يوم من العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، وبالضبط في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023، ارتقى ابن شقيق زوجها، وهو زوج ابنتها عزيزة ويدعى محمود (40 عاما)، خلال قصف لتجمع مواطنين في محيط منطقة الترنس التي تعد أكثر المناطق ازدحاما بالسكان والمارة في مخيم جباليا. كان لدى محمود خمسة أطفال.
أول حالة فقدان بالنسبة لعائلة الصيداوي كانت باستشهاد محمود المعروف بين أبناء المخيم بسماحته ولطفه، في تلك اللحظة كان برفقته ابنه يوسف ولحسن الحظ نجا. آخر ما قاله محمود وفقا لما نقله عنه شقيقه المحامي أحمد الصيداوي: "ديروا بالكم على أمي"، (انتبهوا إلى أمي) وقد كرّرها ثلاث مرات".
بعد مرور شهر تقريباً على الهجمة الإسرائيلية على غزة، قصف منزل خالتي حنان المكون من ثلاثة طوابق، الواقع في منطقة مسجد الرباط جنوبي مخيم جباليا شمال غزة. تفرقت العائلة بعد ذلك، منهم من نزح إلى جنوب القطاع، فيما بقيت خالتي وزوجها المصاب يوسف (74 عاما)، بالإضافة إلى حفيدتها الطفلة سارة (عامين).
بعد محاصرة مستشفيات مخيم جباليا وإحراقها، اضطرت الخالة حنان إلى النزوح داخلياً إلى منزل شقيق زوجها خليل الصيداوي، الذي يعمل في الكادر الطبي ضمن طواقم الإسعاف منذ 30 عاما، وذلك لمساعدتها في توفير العلاج اللازم لزوجها، وحمايتها من القذائف المتساقطة في كل مكان وفي كل وقت.
بيت الصيداوي في مرمى الاحتلال
حوصر المخيم في أواخر العام المنصرم واقتربت الآليات من المنطقة الغربية، ورافق الاجتياح القذائف التي لم تنقطع. وبحكم كبر مساحة بيت الصيداوي، وخاصة أنه من بين المنازل القليلة المسقوفة من الباطون، لجأ أغلب سكان حي "حارة الزمر" إلى المنزل. كان هناك تقريبا أكثر من 140 شخصا، برفقة عائلة الصيداوي، يتقاسمون طعامهم وخوفهم ونومهم، إلا أن قصف الجيش للمربع الملاصق مسح عدة عوائل من السجل المدني، ودفع كل من في المنزل إلى الهروب إلى الشوارع ومراكز الإيواء، ومنها مشفى اليمن السعيد، ومركز إغاثي تابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
حرب تجويع على مخيم جباليا
في اليوم التالي، عاد رجل الإسعاف خليل الصيداوي إلى منزله، رمّم ما يمكن ترميمه وأصبح جاهزا للسكن، وطلب من عائلته ومن بينهم خالتي حنان وحفيدتها العودة. مع فرض إسرائيل حرب تجويع على مخيم جباليا امتدت لشهرين تقريبا، باشر الصيداوي بتجهيز فرقة من نساء الحي وزوجته وخالتي، مهمتهن تجهيز الماء والخبز وتقسيمه بالتساوي على من بقي من الحي. بجانب أنه كان يتوفر على مخزون كاف من الإسعافات الأولية، إذ كان يقدم الرعاية الطبية خاصة لكبار السن والمصابين.
مرّت الأيام تطوي معها الخوف والجوع والألم والفقد، وفي بداية مايو/أيار المنصرم، أعلن الجيش الإسرائيلي حملة أخرى على مخيم جباليا، وكانت الأكثر فتكا وشراسة من الأولى. إذ انتهج سلوكاً مغايراً هذه المرة، فبدل دخوله من جهة الغرب، دخل من الجنوب الشرقي، وتحديدا من منطقة تعرف ببلوك "2". كما استخدم سلاحا جديدا عُرف "بتفخيخ الروبوتات". وهذا السلاح عبارة عن آلة تشبه ناقلة الجند فيها تقريبا ستة أطنان من المتفجرات تنفجر فور دخولها الشوارع الضيقة ويأخذ الانفجار الشكل العرضي. خلال هذه الاستراتيجية، ومع كثافة القصف المدفعي على المنازل المغطاة بالقرميد، أجبر سكان العمق في المخيم على التراجع لأطرافه الغربية وتفريغه، لكن عائلة الصيداوي رفضت الخروج.
انتهت الحملة العسكرية الثانية على مخيم جباليا، في تاريخ 28 مايو 2024، كان المشهد مرعبا ومهيبا، في كل ركن مجموعة شهداء منتفخين؛ ومنهم ممزقون، أطفال، نساء، شبان، مقاتلون، تقريبا في كل متر كان هناك شهيد. هنا، يحضرني قول الشاعر المصري أحمد بخيت في قصيدة رام الله: "ولدماء طفل، في شوارع غزة، أقم الصلاة، فكل طفل، قِبلة".
ومع تراجع جيش الاحتلال، بدأت الكوادر الطبية بالبحث بين المنازل المستهدفة عن مصابين وشهداء، من بين المنازل التي لم ينج منها أحد من عائلة الصيداوي، قصف المنزل بأربعة صواريخ من نوع F16. وقتلت خالتي حنان والعم خليل وحتى نساء الحي اللواتي احتمين في المنزل.
بحسب المحامي أحمد خليل الصيداوي (32 عاما) والذي يعمل في الضفة المحتلة، وهو نجل الشهيد خليل، لقد ارتقى أكثر من عشرين شخصا في المنزل. يقول والحزن باد على وجهه: "بعد رحيل أمي وأبي، انطفأ كل شيء في داخلي". بعد يومين اكتشف أن شقيقه ويدعى حسن (30 عاما)، هو أيضا من قائمة الشهداء، رحل من عائلة أحمد ستة أشخاص، اثنان من أشقائه وأمه وأبيه وزوجة عمه - خالتي حنان- وحفيدتها سارة.
في نعي حسن ومحمود، يتابع أحمد: "بعد ما استشهد إخوتي لا أحد يعرف قصتي غيرهم هم من عاشوها معي، تقاسمنا معاً رغيف الخبز نفسه، وحلمنا على السرير عينه ولبسنا الثوب ذاته وتجمعنا أمام التلفاز بعدما تقاسمنا معاً ثمن التسالي، كان خوفنا مشتركاً وبكاؤنا جماعياً وضحكنا عفوياً بأعلى صوت، لم يحبني أحد كحبهم".
وائل ابن خالتي حنان، تعرض لبتر في ساقه اليسرى، وهو نازح في إحدى الخيام، ما زال في حالة نفسية غير مستقرة، وحالة اكتئاب جديدة، يشعر بأنه السبب الأول في ما حصل لأمه وطفلته سارة. يقول وائل: "مضت خمسة أشهر على رحيل أمي، وإن غفرت لي لحظة تركها وحدها، لن أغفر لنفسي طوال عمري، أشعر بقهر شديد يغطي محيطات العالم".
في ما يلي قائمة أسماء شهداء عائلة الصيداوي: الشهيد خليل الصيداوي (70 عاما)، الشهيدة الأم مريم الصيداوي (60 عاما)، الشهيدة حنان عاشور الصيداوي (56 عاما)، الشهيدة ضحية الصوالحة (61 عاما)، الشهيدة كفاح الصوالحة (40 عاما)، الشهيدة الطفلة سارة الصيداوي (عامان)، الشهيدة ختام الزمر (44 عاما)، الشهيدة الحاجة نعمة الزمر (65 عاما)، الشهيد حسن الصيداوي (30 عاما). يشار إلى أن باقي الشهداء مجهولو الهوية، لم يتم التعرف عليهم إما بسبب العثور على أشلاء، أو لكونهم نازحين لا أحد في الحي يعرفهم.