- نسبة المهجَّرين في قطاع غزة تصل إلى 95%، حيث يحمل السكان مفاتيح منازلهم ووثائق الأراضي كرمز لتمسكهم بحق العودة، رغم النزوح الكامل أو الجزئي من المخيمات.
- تستمر معاناة النازحين الفلسطينيين الذين يحلمون بالعودة إلى مخيماتهم، متشبثين بذكريات وحقوق أجدادهم، فيما يواجه حوالي 1,7 مليون نازح ظروفاً صعبة في ملاجئ الطوارئ أو تجمعات عشوائية.
يعيش سكان قطاع غزة ظروفاً مأساوية بالتزامن مع مرور 76 عاماً على النكبة الفلسطينية التي عاشوا خلالها شهوراً طويلة متتالية من حياة التهجير داخل الخيام ومراكز الإيواء واللجوء.
يتعرض عشرات الآلاف من سكان قطاع غزة منذ أكثر من سبعة أشهر متواصلة للقتل والتدمير والتهجير على غرار ما واجهه أجدادهم خلال النكبة الفلسطينية في عام 1948، وهم معرَّضون للجوع والأمراض وتبدل الطقس بين الحر والبرد والأمطار، بينما لا أحد تقريباً يحاول حمايتهم أو إنقاذهم.
ومع حلول ذكرى النكبة، وصلت نسبة المهجَّرين في قطاع غزة إلى 95 في المائة، ويستذكر بعضهم كيف كانوا يحيون هذا اليوم خلال الأعوام السابقة على العدوان، فكان البعض يشاركون في المسيرات حاملين مفاتيح المنازل التي ورثوها من أجدادهم، والوثائق التي تثبت ملكيتهم للأراضي التي سلبها الاحتلال، وبعض المقتنيات المرتبطة في ذاكرتهم بالنكبة، وقد حرص بعضهم على حمل تلك المفاتيح والوثائق والمقتنيات في رحلة النزوح المتكررة خلال العدوان الحالي.
ويحلم آلاف من المهجرين حالياً بالعودة إلى المخيمات التي أقام فيها أجدادهم بعد النكبة، والتي باتت العودة إليها صعبة، إما بسبب الدمار، وإما بمنع الاحتلال عودتهم. وقد شهدت المخيمات الفلسطينية الثمانية التي أنشأتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في قطاع غزة تهجيراً كاملاً أو جزئياً، وكان آخرها مخيم رفح الكبير الذي غادره الآلاف خلال الأسبوع الماضي بعد الهجمات الإسرائيلية.
كان محمد الجزار أحد المهجرين من مخيم "يبنا الشابورة" في مدينة رفح، بعد أن وصل القصف الإسرائيلي إلى محيط منزله، وبعد تهديد سكان المخيم الذي عاش فيه أجداده، رغم أن المخيم يعتبر من بين الأكثر تهميشاً، ولم تُجدَّد منازله الرديئة منذ عشرات السنين، وغالبيتها أسقفها من الإسبست.
وصلت نسبة المهجَّرين بسبب العدوان على غزة إلى 95 في المائة
فقد الجزار (40 سنة) أعداداً كبيرة من أفراد عائلته في مدينتي رفح وخانيونس نتيجة القصف الإسرائيلي، ثم أُجبر على ترك المنزل الذي يعيش فيه منذ طفولته، والذي عاش فيه جده عمار الجزار، الذي توفي في عام 2004. يقول لـ"العربي الجديد": "تعود أصول عائلتي إلى قرية يبنا، التي تُعَدّ من أكبر قرى مدينة الرملة المحتلة بين مدينة يافا والمجدل. أشعر بحزن شديد لأنني أجبرت على ترك المنزل الذي يضم كل ذكرياتي مع جدي الذي قام برعايتي منذ طفولتي، وحفظت منه حكايات النكبة، وقصص الخذلان التي عايشها المهجَّرون حينها، خصوصاً في مدينة رفح التي كانت تضمّ ثكنات عسكرية للجيش المصري قبل حرب النكسة في عام 1967".
نزح الجزار إلى منطقة المواصي غربي مدينة خانيونس، بعد أن طالب الاحتلال سكان مخيم الشابورة بالمغادرة، وذلك بعد يومين من تهديده سكان المنطقة الشرقية من مدينة رفح، وإجبارهم على النزوح. لكنه اصطحب معه وثيقة صادرة عن "حكومة عموم فلسطين"، تؤكد أن جده لديه 6 دونمات في المنطقة الشمالية من قرية يبنا، وأنها كانت أراضي زراعية يزرع فيها القمح والشعير والخُضَر الموسمية.
يوضح: "نكبتنا مستمرة في ظل استمرار الخذلان الذي حدثني عنه جدي قبل وفاته. نحن الفلسطينيين لم نعد نعيش في الأحلام، ولا ننتظر أن يأتي أحد ليدافع عنا، أو يتدخل جيش عربي لحمايتنا من الاحتلال. إسرائيل وراءها كل قوى العالم، أما نحن فنملك الحق، وهو ما يجعلنا أقوياء، وصامدين. لم يكن جدي يؤمن بالسلام مع الاحتلال، وكان يقول إن السلام مع المحتل يعني التنازل عن الحق، وكرر على مسامعي أنه بعد إبرام السلام المصري مع إسرائيل في كامب ديفيد، تيقن أنه لن يدخل أي جيش عربي قطاع غزة لحماية الفلسطينيين، وهذا ما حصل بالفعل، ولو كان جدي حياً كان سيبكي على حالنا".
يحلم المهجَّرون بالعودة إلى مخيمات عاش فيها أجدادهم بعد النكبة
وعاش أهالي غزة قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ظروفاً معيشية قاهرة، خصوصاً سكان مخيمات اللاجئين، وكانت تشتد الأزمات مع استمرار الحصار الإسرائيلي، الذي أدى إلى تفاقم البطالة والفقر، وتقلص التمدد العمراني لعدم القدرة على البناء، حتى تحولت المخيمات بعد 75 عاماً من النكبة إلى صناديق تتلاصق فيها المنازل، في حين كان سكانها مرتبطون بها باعتبارها جزءاً من ذاكرة التهجير والنكبة.
وأطلق المهجرون الفلسطينيون على مخيمات قطاع غزة، أو على أحيائها وشوارعها، أسماء قراهم المهجرة، فإلى جانب مخيم يبنا الشابورة في رفح، هناك حارة المسمية في مخيم دير البلح، نسبة إلى قرية المسمية، ومنطقة مصلح في مخيم المغازي، التي نزح منها أحمد مصلح أخيراً.
يقول مصلح (38 سنة) لـ"العربي الجديد": "حتى لو كانت رائحة المخيم كريهة في فصل الشتاء، والمعيشة فيه صعبة في ظل الحر الشديد في الصيف، إضافة إلى الكثير من المعوقات الحياتية، إلا أنني حالياً أحلم بالعودة إليه. العدوان الإسرائيلي الحالي غير الكثير في نفوس سكان غزة، ومن بين ذلك نظرتهم إلى المخيمات التي تحمل رائحة الأجداد، ورائحة فلسطين التاريخية بكل تفاصيلها، فالشارع الضيق في المخيم يوجد فيه شعارات كثيرة، من مفاتيح العودة إلى خريطة فلسطين الكاملة، والمنزل الصغير في المخيم بالنسبة إليّ أفضل من قصر خارجه، فنحن نعيش على أمل العودة إلى ديارنا التي هجر الاحتلال أجدادنا منها، قد لا أعود إليها أنا، لكن قد يعود إليها ابني".
يضيف: "تعود أصول عائلتي إلى قرية البطاني الغربية التي تبعد عشرات الكيلومترات عن قطاع غزة، وكان لدينا منزل من الحجر، وقد كبرت وأنا أحلم بالعودة إلى هذا المنزل، لأنني كنت أسمع من كبار العائلة أنه حجر طيني صلب يقاوم الظروف المناخية، وقد ورثت الكثير من حكايات جدي الذي توفي في عام 2010، والذي كان يبكي كلما تحدث عن العودة، وكان يريد الموت في منزله وفي قريته".
يعيش النازح حسين ياسين (40 سنة) حالياً في خيمة أنشأها أشقاؤه في مخيم دير البلح، ويؤكد أنه حمل معه مفتاح منزل جده الذي يملأه الصدأ في رحلة نزوحه السابعة خلال العدوان الإسرائيلي الحالي، وهو المفتاح الذي ورثه من والده الذي توفي في عام 2015، وانتقل به في أثناء النزوح من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة ضمن حقيبة تضم الوثائق الرسمية والمال.
يقول ياسين لـ"العربي الجديد": "تنتمي عائلتي إلى قرية الجورة الموجودة بالقرب من مدينة المجدل على ساحل البحر، وأحمل هذا المفتاح دائماً، وأعرف أن منزل جدي بابه خشبي ومطلي باللون الأسود، ووالدي شاهد المنزل عندما كان ضمن العمال في الداخل المحتل عام 1980، لكنه لم يستطع الاقتراب منه، لأن شرطة الاحتلال منعته من دخول المنطقة التي فيها مستوطنون صهاينة سرقوا منازلنا وأراضينا. حالياً لا أعرف إن كان منزل جدي لا يزال قائماً، لكن ما أعرفه أنه حتى لو هُجِّرت إلى أبعد البلاد، فهذا المفتاح دليل على حقي".
وحسب بيانات الصليب الأحمر الدولي، فإن نحو 200 ألف لاجئ فلسطيني وصلوا إلى قطاع غزة وقت النكبة لوجود ارتباطات عائلية، وعلى اعتبار أن غزة كانت الطريق إلى مصر، وعلى أن يكون ذلك ضمن مرحلة مؤقتة، إذ كانت تتمركز الجيوش العربية في المنطقة للتصدي للعصابات الصهيونية، وقد نظمت نقاط تجمع للمُهجرين على أمل عودتهم مجدداً إلى الديار.
وفي آخر إحصائية لوكالة "أونروا" التي أنشئت بعد النكبة، وصلت أعداد الفلسطينيين المُهجرين حول العالم إلى أكثر من 6 ملايين فلسطيني من أصل قرابة 750 ألف لاجئ، من بينهم قرابة مليون و600 ألف لاجئ مسجلين لدى الوكالة في قطاع غزة، وهم يشكلون أكثر من 65 في المائة من سكان القطاع البالغين 2,4 مليون نسمة.
وكشفت أرقام جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني (حكومي) أنه في الفترة بين عام 2004 وعام 2022، غادر أكثر من 100 ألف فلسطيني قطاع غزة من دون عودة، ومعظمهم ينتمون إلى عائلات من المهجَّرين من قرى ومدن فلسطينية في عام 1948، والنسبة الأكبر منهم حصلوا على حق اللجوء في دول أجنبية.
وتستمر حركة النزوح في قطاع غزة في ظل العدوان الحالي، وتشير بيانات وكالة "أونروا" إلى أنّ هناك ما يقارب 1,7 مليون شخص نازح يحتمون حالياً في ملاجئ الطوارئ التابعة لها، أو للحكومة، أو في تجمعات عشوائية بالقرب من تلك الملاجئ.