لبنانيون في الانهيار... غريزة البقاء قد تدفع المواطنين إلى العنف

بيروت
ريما أبو خليل .. لبنان
ريما أبو خليل
صحافية لبنانية، من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.
11 يونيو 2021
 لبنانيون في الانهيار... غريزة البقاء قد تدفع المواطنين إلى العنف
+ الخط -

 

ما يعيشه اللبنانيون اليوم من انهيار على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية يضعهم في موقع يصارعون فيه للبقاء، الأمر الذي ينذر بارتفاع معدلات العنف وبالتالي الجريمة.

يُواجه اللبنانيّون اليوم مخاطر عدّة على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. فالمواطن الذي كان يعيش نوعاً من الاستقرار المادي، أو الذي كان يعتقد ذلك، وجد نفسه بعد سلسلة أزمات متتالية أمام خطر وجودي مع انهيار الليرة اللبنانية، وفقدانه مدخراته التي كان يأتمن المصارف عليها، حتّى أصبح لسان حال قسم كبير من الشعب "جنى العمر راح". وفي أحاديثهم اليومية، يناقش المواطنون حالة نكران الواقع التي يعيشونها، ورغبتهم في الحياة رغم كلّ شيء، وإن كانوا لا يجدون أدويتهم في الصيدليات، ويضطرون إلى الوقوف في طوابير لملء سياراتهم بالوقود، وتحمل الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، والغلاء، وغير ذلك.

تقول الباحثة في علم الاجتماع ربى مهنّا، لـ "العربي الجديد"، إنّ المجتمعات تتكوّن عادة من ثلاث طبقات، فقيرة ووسطى وغنيّة. لكن بسبب الوضع الاقتصادي، تدنّى حال الطبقات الثلاث في لبنان، بل إنها اندمجت بعضها ببعض، موضحةً أنّ السبب الأساسي يرتبط بكون أموال المودعين محتجزة في المصارف، ما يهدّد حتّى بزوال الطبقة الغنية. وتوضح مهنّا أنه نظراً لغلاء المعيشة وتردّي الوضع الاقتصادي، ارتفع حجم الإنفاق، في حين أنّ الرواتب ما زالت على حالها، ما أدّى إلى تدهور اقتصادي، الأمر الذي يساهم في تحقيق تشتّت اجتماعي، وبالتالي تشتّت الوعي والفكر الجماعي، الذي يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، وبالتالي تحفيز الوعي الفردي أو الأنانية الفردية التي تتيح للفرد الاستمرار. وإذ تشير إلى أنّ الأنانية الفردية تهدم كلّ مجتمع وتمنع الشعب من التقدم، تشرح أنّ الشعب يعيش حالة من الخوف وعدم الأمان، الأمر الذي سيدفعه للجوء إلى الأمن الذاتي، وقد يضع كل شخص قطعة سلاح في منزله ليحمي نفسه.

تتابع مهنّا: "المجتمع اللبناني يائس، والشعب يبحث عن الصمود وينتظر قوة خارجية، كما أنه يعيش موتاً بطيئاً وقد فقد الأمل"، متوقعة أن ترتفع نسب الجرائم من سرقات وقتل واغتصاب، بالإضافة إلى معدّلات الانتحار، على اعتبار أن أدنى حقوق الإنسان غير متوفّرة، عدا عن ارتفاع نسبة البطالة وهجرة الأدمغة. وتشرح أنّ غياب السلطة والمرجعية تدفع كلّ إنسان إلى حماية نفسه، مشيرة إلى أن الدولة كمفهوم لم تكن موجودة في السابق، لكنّ الشعب كان ميسوراً نوعاً ما. أمّا اليوم، فقد خسر أمواله، ويعيش المواطنون اليوم وضعاً استثنائياً.

الصورة
احتجاج ضد انقطاع التيار الكهربائي في لبنان (محمود غيلدي/ الأناضول)
احتجاج ضدّ انقطاع التيار الكهربائي (محمود غيلدي/ الأناضول)

بدورها، توضح المتخصّصة في علم الجريمة باميلا حنينة، في حديثها لـ "العربي الجديد"، أنّ الإنسان البدائي يميل إلى القتل بهدف الحفاظ على الحياة أو ما يُعرف بغريزة البقاء. لكن مع تطوّر المجتمعات، برزت الحاجة إلى الأنظمة والقوانين التي تنظّم حياة الفرد، وتمّ تحديد الجريمة على أنها كلّ فعل سيئ يتمّ عن سابق تصوّر وتصميم، ما دفع الدول إلى إقرار قوانين وعقوبات للأشخاص الذين يرتبكون الجرائم. وتلفت حنينة إلى أنّ الإنسان بدأ عبر التاريخ قتل الحيوان أو الخصم ليتمكّن من البقاء في البقعة التي استملكها. وتسأل: "هل الدولة والنظام أعادانا إلى الإنسان البدائي وحفّزا هذه الغريزة البدائية؟". ولا ترى أنّ العامل الاقتصادي سيكون المحفز الأساسي لارتفاع معدّلات الجريمة مستقبلاً، مع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي وتضاؤل القدرة الشرائية لدى المواطنين. تقول لـ "العربي الجديد" إنّ السياسة تدخل ضمن العوامل المحفزة للجريمة، بالإضافة إلى العوامل الجينية، والشخصية، والبيئية، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنّ الشعب اللبناني يميل بطبيعته إلى العنف، في إشارة إلى المشاكل التي تشهدها البلاد بين مناصري الأحزاب والتي تتطوّر في الكثير من الأحيان إلى نزاعات مسلّحة.

تظاهرة ضد الوضع الاقتصادي المتدهور (حسام شبارو/ الأناضول)
تظاهرة ضدّ الوضع الإقتصادي المتدهور (حسام شبارو/ الأناضول)

وتقول حنينة إنّ الجرائم ارتفعت بنسبة 100 في المائة مع بدء تردّي الوضع الاقتصادي في أواخر عام 2019، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنها تشهد ارتفاعاً منذ 5 سنوات لأسباب عدة. وتوضح أن تردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية، ووجود استعداد جيني وبيئي لارتكاب الجرائم، ساهما في ارتفاع نسبة العنف في المجتمع. وفي هذا السياق، ترى حنينة أنّ التعليم مفتاح أساسي لتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، متوقعة أن تزيد نسبة الجرائم 150 في المائة بعد نحو ستة أشهر نتيجة تراجع التعليم، من جراء تفشي فيروس كورونا، بالإضافة إلى تردّي الوضع الاقتصادي الذي سيؤثر مستقبلاً على مستوى التعليم والقدرة على الحصول عليه. فالتعليم، بحسب حنينة، يساعد في تكوين شخصية سليمة، وتهذيب النفس، وفقدانه يؤثر في المجتمع على المدى البعيد أكثر من فقدان القدرة على تأمين الأكل والشرب والحاجات الأساسية.

وتلفت حنينة إلى أنّه "في الوقت الحالي، لا يأخذ القانون في الاعتبار الظروف التي تحيط بالمجرم، ويعاقب الشخص بالطريقة المنصوص عليها في قانون العقوبات، وهذا أمر خاطئ، لأن غياب العدالة الجنائية هو من المحفزات لارتكاب الجرائم، إذ لا ثقة بالعدالة، ولا تطوير في العدالة الجنائية في لبنان"، داعية إلى ضرورة تطوير نظام العقوبات في لبنان ليتماشى مع النمط المتغيّر لسلوك الأفراد، وأهمية تطوير وتعزيز الرادع لمرتكبي الجرائم.

كيف يقرأ علم النفس ردّة فعل اللبنانيين حيال المتغيّرات الحاصلة؟ وما الذي يتوقّع حدوثه في الفترة المقبلة مع اشتداد الضغط الاقتصادي، ورؤية المواطنين يقفون في طوابير للحصول على حاجاتهم الأساسية التي بات جزءاً كبيراً منها مفقوداً؟ في هذا السياق، تقول المعالجة النفسية شارلوت الخليل، لـ "العربي الجديد"، إن سلوك الناس يختلف حيال الأزمات باختلاف أوضاعهم، وبنيتهم النفسية، ومداخيلهم. تضيف: "بغض النظر عن فيروس كورونا، نعيش أزمة اقتصادية ومعيشية ودوائية وغذائية، وكل هذه الأزمات تخلق قلقاً كبيراً وخوفاً وشعوراً بعدم السيطرة على الموقف، تترافق مع انخفاض الثقة بقدرة الدولة على إدارة الأزمة بسبب الإخفاقات المتكررة. لذلك، يجد اللبناني نفسه في مواجهة هذه النواقص والفقدان والموت. ومن الطبيعي أن يشعر بالاضطراب في مواجهة هذه الأمور".

تضيف الخليل أنه "في هرم الحاجات الإنسانية هناك تلك البيولوجية، ثم الحب والأمان والحاجات الاجتماعية، وحاجات تحقيق الذات، لكن إذا عجز الإنسان عن تأمين الحاجات البيولوجية الأساسية، لا يستطيع التفكير في الأمور الأخرى أو طلبها، وتصبح من الكماليات". وترى أننا "نعيش اليوم محاولة للحفاظ على الحياة أو ما يُعرف بـ survival mode، وهذا يُترجَم بالرجوع إلى الذات وعدم التوجه إلى الآخر، وعدم الاكتراث به. عندما يشعر الإنسان بالخطر الوجودي على حياته، فإنّ الغريزة الطبيعية التي يمكن أن يستخدمها هي الحفاظ على نفسه، وهنا تكمن خطورة ما نمرّ به".

الصورة
شكو مواطنون نقص الأدوية (العربي الجديد)
شكاوى من نقص الأدوية (العربي الجديد)

وإذ تشدّد الخليل على أنه "لا يمكن تعميم الموضوع على الجميع، فنحن ما زلنا نرى مبادرات اجتماعية لمساعدة بعضنا البعض، إلا أن التحديات التي يفرضها الواقع الاقتصادي وكورونا، والخطر الحقيقي على الحياة، تترجم بحالات من الارتياب والوحدة"، موضحة أن فيروس كورونا والتباعد الاجتماعي الذي فرضه أثّرا على الترابط الإنساني الذي كان موجوداً في المجتمع، وهذه الأمور كلها تخلق صعوبة في التلاقي الإنساني الذي كان يتيح للبنانيين تحمّل كلّ الضغوط والأزمات المتلاحقة.

وتؤكد الخليل أن كل شخص يستخدم أساليب معينة للتعامل مع الخوف، أو ما يسمّيه المعالجون النفسيون "حيلاً نفسية للتعامل مع الخوف"، كلّ بحسب رؤيته للأمور، ليكتسب نوعاً من السيطرة على الموقف، فبتنا نشعر بأن الناس بدأوا ينغلقون على أنفسهم وعلى العائلة الصغيرة فقط، خصوصاً في ظلّ الأزمة المادية. وتقول الخليل إن "اللبناني يعيش حصاراً كبيراً بين كورونا والوضع الصحي والوضعين السياسي والاقتصادي، وكأنه في قفص يضيق أكثر فأكثر مع الوقت. لذلك، فالوضع من الناحية النفسية ينذر بنتائج صعبة، بدأنا نرى بعضها مع تسجيل اضطرابات نفسية لدى مختلف الفئات العمرية". وتفسّر الخليل أن الإنسان أمام الخسارة والفقدان يظهر الكثير من العنف، وهذا العنف يمكن أن يتحوّل نحو الذات، فنرى حالات اكتئاب وإحباط ويأس، أو نحو الآخر، فنرى ردود فعل عنيفة، مؤكدة أن "الإنسان في هذه المرحلة لا يستطيع ضبط ردات فعله".

قضايا وناس
التحديثات الحية

وتكمل الخليل أن "الدراسات السابقة أثبتت أن الإنسان عندما يشعر بأن هناك ما يهدّد بقاءه، سيتصرف بكل السبل المتاحة لحماية نفسه، حتى لو اضطر للقيام بأمور لم يقم بها، ويحصل هذا حتّى لدى الأشخاص المسالمين في حياتهم". تضيف: "ردات الفعل تتأثر بمستوى المعاناة، والضغط النفسي، وطبعاً تختلف من شخص إلى آخر. لكن إذا نظرنا إلى مستوى الأزمات التي يعاني منها الشعب اللبناني اليوم، وشعوره المتزايد بالظلم والتعدي والإحباط، فنتوقع ردات فعل قوية جداً إذا لم يتم إيجاد حلول قريباً". وتوضح أنه "من خلال سعيه إلى الشعور بنوع من السيطرة والقدرة، من الممكن أن يلجأ إلى سلوكيات قد تشمل السرقة وغيرها، وفقدان التعاطف مع الآخر للحفاظ على التوازن الاجتماعي".

إذاً، يبدو مستقبل لبنان القريب قاتماً، فمشاهد الذلّ أمام محطات المحروقات أخيراً، فضلاً عن انقطاع جزء كبير من الأدوية، والمواد الأساسية، خصوصاً الغذائية منها، لن تقف عند هذا الحدّ، مع استمرار تقاعس المسؤولين عن القيام بأدنى واجباتهم حيال شعبهم بعد سرقة أموالهم.

ذات صلة

الصورة
دبابة إسرائيلية على حدود لبنان من جهة الناقورة، 13 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

اشتدت حدة المواجهات البرية بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان مع دخول المعارك شهرها الأول من دون أن تتمكن إسرائيل من إحكام السيطرة.
الصورة
قصف إسرائيلي في محيط قلعة بعلبك الأثرية، 21 أكتوبر 2024 (نضال صلح/فرانس برس)

سياسة

انضمّت مدينة بعلبك إلى الأهداف الإسرائيلية الجديدة في العدوان الموسَّع على لبنان تنفيذاً لسياسة الأرض المحروقة ومخطّط التدمير والتهجير الممنهج.
الصورة
أنشطة ترفيهية للأطفال النازحين إلى طرابلس (العربي الجديد)

مجتمع

أطلقت منظمات وجمعيات أهلية في مدينة طرابلس اللبنانية مبادرات للتعاطي مع تبعات موجة النزوح الكبيرة التي شهدتها المدينة خلال الفترة الأخيرة.
الصورة
دمار جراء غارات إسرائيلية على بعلبك، 25 أكتوبر 2024 (Getty)

سياسة

شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات دموية على مناطق عدّة في محافظة بعلبك الهرمل اللبنانية أدت إلى سقوط عدد كبيرٍ من الشهداء والجرحى وتسجيل دمار كبير
المساهمون