منذ بداية العام الحالي 2021 تزايد الحديث والسجال، داخل وخارج الدنمارك حول قضية "ترحيل السوريين"، لاعتبار "دمشق وريفها" آمنين، لعودة اللاجئين إليهما. وسريعا جرى تبنٍّ سياسي للقرار الذي أقره مجلس إدارة اللاجئين في فبراير/شباط الماضي، من حكومة يسار الوسط وأحزاب اليمين المتشدد، ومعارضة اليسار وحزب راديكال المحسوب على يسار الوسط، بالإضافة إلى منظمات حقوقية وبعض الصحافة ومواطنين عاديين على وسائل التواصل.
وتطبيق قرار "مجلس إدارة اللاجئين"، بسحب أو تجميد تمديد إقامة لاجئين سوريين، بناء على تقييم "الأمان" يعد سابقة أوروبية، إذ لا تطبق أي من دول الاتحاد الأوروبي المعيار الدنماركي حول دمشق وريفها.
لكن عمن يجري الحديث هنا؟
في 2015 استقبلت الدنمارك، في سياق موجة اللجوء الكبيرة، عدة آلاف من السوريين، وبعضهم علق في البلاد أثناء توجهه إلى السويد عبر الحدود البرية الدنماركية مع الشمال الألماني، ومن كوبنهاغن بالقطارات نحو السويد. سرعان ما بدأت الدنمارك تطبيق سياسة "اللجوء المؤقت"، وتوقفت عن منح اللجوء التلقائي للسوريين، وعلى أساس الأعمال الحربية. ومع بداية 2016 كان نحو 4500 من اللاجئين السوريين مصنفين كلاجئين مؤقتين، بإقامة سنوية تجدد وتسمح لحامليها بالعمل والدراسة، وتمنحهم كافة الحقوق التي يتمتع بها المهاجر والمقيم الدائم والمواطنون.
جرى تبني أغلب بنود تشديد قانون الهجرة/اللجوء فترة حكم يمين الوسط، إذ شددت وزيرة الهجرة السابقة عن حزب "فينتسرا" الليبرالي، المثيرة للجدل، إنغا ستويبرغ، من قوانين لم الشمل، ودفعت بإعلانات مدفوعة الأجر إلى صحف لبنانية وغيرها، تطلب من اللاجئين عدم القدوم إلى البلاد. وعرفت أيضا بتبني قانون "مصادرة الحلي"، الذي أثار انتقادات حقوقية وأوروبية واسعة، وشبهه البعض بتصرف النازيين بسرقة ذهب ومجوهرات المرسلين نحو معسكرات الاعتقال الجماعي. وكل تلك السياسة كانت تهدف وبشكل صريح إلى "جعل الدنمارك أقل جذبا للجوء والهجرة"، بحسب ما ظلت تردد حكومة يمين الوسط السابقة.
ورغم تغيّر المشهد السياسي في كوبنهاغن، مع وصول يسار الوسط إلى الحكم في 2019، بزعامة رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن، فإن شيئا لم يتغير في سياسة التشدد تجاه اللاجئين عموما والسوريين بشكل خاص.
ومع تحول ملف اللجوء والهجرة إلى الوزير الديمقراطي ماتياس تيسفايا (من أصول مهاجرة إثيوبية) بدا من الواضح أن التشدد ماضٍ دونما تغيير. فاعتبرت الحكومة إقامة نحو 900 شخص من منطقتي دمشق وريفها بمثابة مقيمين بصدد العودة إلى بلدهم. وردد تيسفايا مرارا أن مهمته كوزير هجرة ودمج باتت الآن "تحضير اللاجئين للعودة إلى الديار لا الدمج والبقاء في البلد".
جاء كل ذلك على خلفية تقريرين إثر زيارتين قام بهما وفدان دنماركيان خلال الأعوام القليلة الماضية، وشملت دمشق وبيروت. خرجت الزيارتان، مع تصاعد الحديث الروسي في 2018 عن عملية البدء بإعادة اللاجئين إلى سورية، بخلاصة أن الوضع الأمني تحسن في البلاد. وخصص الوفد الزائر، بعد لقاءات رسمية مع مسؤولين سوريين، منطقة العاصمة دمشق وريفها، بأنهما "آمنتين الآن لعودة اللاجئين". وادعت السلطات حصولها على ضمانات أمنية بعدم ملاحقة العائدين.
منذ نهاية العام الماضي 2020 والأشهر الثلاثة الأولى من الحالي 2021 ذهبت "دائرة الهجرة"، المسؤولة عن تراخيص الإقامة وتجديدها، إلى وقف التمديد وإلى إرسال رسائل للقادمين من دمشق بأنهم أصبحوا الآن مقيمون غير شرعيين وعليهم مغادرة البلاد.
أدت تلك السياسة خلال الأسابيع الماضية إلى تراكم قضايا وقف تمديد التصاريح، دونما استثناء بين موظف وطالب، وهو ما أشار إليه تقرير "العربي الجديد" السبت الماضي عن الطلاب الذين جردوا فجأة من حقهم بمواصلة التعليم والتخرج بعد أسابيع.
التطبيق العملي
على الرغم من تجميد إقامات المئات حاليا، من بين اللاجئين بصفة مؤقتة، فإن مسألة التسفير من الدنمارك إلى دمشق تبدو أكثر تعقيدا مما يجري تداوله. فوسط اعتراضات أحزاب اليسار ومنظمات حقوقية، محلية وعالمية، عن بقاء الخطر قائما في سورية، وتدهور الأوضاع المعيشية، واستحضار الصحافة المحلية للدمار الكبير الذي لحق أصلا بريف دمشق، تبقى قدرة حكومة يسار الوسط على تنفيذ الترحيل مسألة صعبة. فسياسيا السفارة الدنماركية في دمشق مغلقة، والتواصل مع النظام السوري مقطوع، ويرفض وزير الخارجية، ييبا كوفود، وغيره من السياسيين والأحزاب، فتح اتصالات معه، رغم تأييد اليمين المتطرف للتواصل، ما يعني أن "تسفير سوريي دمشق وريفها" غير ممكن حاليا.
لكن النتيجة العملية لسحب الإقامة تحيل من أقام منذ 2015 إلى مقيم غير قانوني، وهو ما يعني توقف الحياة تماما. وبعض الحالات تجد نفسها مضطرة للتوقف عن الدراسة والعمل، إذ لا يمكن لمن يفقد الرقم الوطني والإقامة مواصلة حياته بكامل الحقوق السابقة.
وعليه، ووسط سجال ولغط كبير حول "تسفير السوريين" توصلت السلطات إلى حل يعتبر أن من سحبت منه الإقامة يجب إحالته إلى "معسكر/مأوى" مؤقت ريثما يجري تطبيق الترحيل. وأدى السجال إلى تعرض وزير الهجرة، ماتياس تيسفايا، لانتقادات لاذعة لتصلبه ورفضه التدخل لمساعدة البعض على مواصلة دراسته على الأقل، وخصوصا هؤلاء الذين على مشارف التخرج.
وفي المجمل، فإن أكثر من 250 حالة تجميد إقامة ينتظرون تسويات برلمانية حزبية، بعد أن حاول اليسار الذي يشكل قاعدة برلمانية لحكومة يسار الوسط إيجاد حل عملي، ولطالما أن هؤلاء المئات يرفضون التعاون مع السلطات لترحيلهم، هذا إلى جانب عدم وجود تواصل وتعاون مع سلطات دمشق، يبقى تنفيذ التسفير مجمدا. ورغم ذلك فإن أعباء نفسية وأسرية وحياتية يتحملها هؤلاء الذين جمدت إقاماتهم، إذ يستغرب كثيرون منهم، وخصوصا الجيل الشاب الدارس، تمسك كوبنهاغن باعتبار دمشق آمنة "رغم التقارير اليومية عن أن الحياة فيها مستحيلة، هذا عدا عن التقارير التي تتحدث عن البطش الأمني على الحواجز"، كما يذكر بعضهم لـ"العربي الجديد".
وتواكب الصحافة الدنماركية من خلال تقارير حول الواقع السوري الوضع في دمشق وريفها، بتفاصيل حول الوضع الأمني الذي تعتبره غير آمن، وخصوصا لمعارضي النظام، وتستشهد بحالات عادت من لبنان وغيره واختفى أثرها. وتذهب بعض افتتاحيات الصحف إلى انتقاد سياسة حكومة كوبنهاغن باعتبارها "الوحيدة في أوروبا التي تغلق سفارتها في دمشق بسبب الوضع الأمني ولكنها تريد للسوريين اللاجئين العودة إليها"، كما سجلت "بوليتيكن". وتعتبر "إنفورماسيون" أن القصة "تتعلق برغبة النظام السوري وموسكو بفتح ملف اللاجئين لاستدعاء استثمارات أوروبا لإعادة تعمير ما دمره الأسد".
ورغم تواصل تجميد الإقامات، وعدم تمديدها، فإن تحذير ات خبراء سياسة الهجرة والدمج تذهب إلى اعتبار الممارسة "رسالة خاطئة من كوبنهاغن"، مشيرين إلى تناقض منع الناس من استكمال التحصيل العلمي "لمساعدة بلدهم مستقبلا" والاستعاضة عنها "بتسريع اعتبارهم غير مرغوب فيهم، رغم صعوبة التسفير".
وجدير بالذكر أنه من بين مئات المرفوضين من جنسيات مختلفة لم تستطع كوبنهاغن ترحيل سوى 11 لاجئا إلى بلادهم الأصلية. ويسمح القانون بالعودة الطوعية للاجئين إلى دولهم، وهو ما يريد الوزير تيسفايا تطبيقه مستقبلا عبر مغريات مالية.