في مأساتين متلازمتين، خسرت عائلة مقدسية منزلها في حين خسرت أخرى ابنها الذي كان يقدّم المساعدة إلى الأولى التي اضطرّت إلى هدم منزلها بأيدي أبنائها. كأنّما لا هروب من القدر تحت الاحتلال.
لم يخطر في بال والد الفتى علي برقان البالغ من العمر 17 عاماً أن تكون تلك الليلة الأخيرة من حياته. هو قضى خلال مساعدته جيرانه على هدم منزل العائلة بأيدي أبنائها بأمر من سلطات الاحتلال، علماً أنّه كان قد منعه في تلك الليلة من التوجّه إلى حيّ الزعيم، حيث حاجز قوات الاحتلال الإسرائيلي، خوفاً على حياته. وكان والد علي قد أوصاه بالبقاء في المنزل في حيّ المروحة على أراضي بيت حنينا، شمالي القدس المحتلة، وألا يغادره تجنباً لإصابته بأيّ مكروه. لكنّ ما حدث هو وقوع ما كان يخشاه. صحيح أنّ ابنه بقي في محيط منزلهم، غير أنّ "المكروه" حدث هناك.
يخبر الوالد "العربي الجديد": "تركت علي في البيت مطمئناً على حياته، وانصرفت لتقديم التهاني بمناسبة عائلية. كانت الساعة تجاوزت التاسعة ليلاً حين رنّ هاتفي وطُلب منّي الحضور فوراً إلى المنزل". يضيف: "كان علي قد ذهب لمساعدة جيراننا من عائلة عابدين التي أرغمتها بلدية الاحتلال الإسرائيلي في القدس على هدم منزلها بأيديها. وخلال ذلك، سقط عليه جدار المنزل وقضى تحت الركام، فصُعقت إذ إنّني كنت أحرص عليه ولم آذن له بالذهاب إلى أصدقائه في الزعيم، لأجد أنّ القضاء والقدر كانا في انتظاره هنا".
كان الأمر صعباً، فوقع الحادثة ثقيل وقد أصابت الفاجعة كلّ فرد في عائلة علي برقان. ويؤكد الوالد: "كان علي ساعدي الأيمن. فأنا أعمل في مهنة الألمنيوم، وكان يرافقني في كثير من أعمالي. لكنّ وقع ما حدث كان أكثر صعوبة على والدته وعلى إخوته"، لافتاً إلى أنّه "كنّا جميعاً نشاركه رغبته في الحصول على رخصة قيادة اجتهد للحصول عليها بعد أن أتمّ دراسته في كليّة صناعية".
ويحمّل الوالد بلدية الاحتلال في القدس مسؤولية ما جرى لنجله، إذ يفرض عليها القانون اتّخاذ إجراءات السلامة والحماية الخاصة في خلال تنفيذ أيّ عملية هدم ذاتي يلجأ إليها الفلسطينيون مكرهين حتى لا يُضطروا إلى سداد غرامة مالية كبيرة في حال لم يهدموا هم منزلهم وقامت البلدية بذلك بدلاً منهم بناءً على أمر من الاحتلال. ويقول الوالد: "كنت مستعداً لمساعدة جيراني في تنفيذ عملية الهدم، لكن في وضع يسمح بذلك ويضمن سلامة من يقوم بالهدم، إنّما ليس في ساعات الليل وليس مع احتمال انهيار المنزل فجأة".
لم يكن وقع ما أصاب علي قاسياً على جميع أفراد عائلته الذين طاولتهم الفاجعة والألم فحسب، بل أتى وقع ذلك كبيراً على عائلة مهنّد عابدين التي آلمها ما حدث. فالمأساة مزدوجة، وفقدان فتى يافع لم يتوانَ عن تقديم العون لعائلة نُكبت بهدم منزلها أمر لا يُحتمل. وقد أربك ذلك العائلة في بادئ الأمر، لحظة وقوع المأساة، وصار من الصعب على صاحب المنزل أن يعود إلى موقع منزله المهدّم حتى بعد مرور أيام على تلك الحادثة، إذ إنّ الأنقاض شاهدة على كل ما جرى. ولم تُسعف صاحب المنزل الكلمات للتعبير عمّا يشعر به ولمواساة العائلة المكلومة بفقدان ولدها.
وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، لم تفلح جهود المواطن المقدسي مهنّد عابدين من حيّ المروحة على الحصول على رخصة بناء لمنزله، على الرغم من محاولاته المستمرة وتكبّده مبالغ مالية كبيرة دفعها كرسوم لإنجاز الترخيص بالإضافة إلى غرامات. ويقول عابدين لـ"العربي الجديد" وهو يحبس دموعه: "ما حدث فاجعة كبيرة أصابتنا جميعاً، أنا والعائلة وأهالي حيّ المروحة. لا يمكن تصوّر ما حدث"، علماً أنّه كان قد رفض في بادئ الأمر التحدّث إلى وسائل إعلامية. ويشير عابدين إلى أنّ عملية الهدم الأخيرة لمنزل عائلته هي الثانية بعد عملية الهدم الأولى في عام 2009. فهو في ذلك الحين، أعاد في العام التالي بناء منزل جديد وراح يقوم بالإجراءات المطلوبة للحصول على رخصة. لكنّ ذلك لم يمنع بلدية الاحتلال من فرض غرامة مالية عليه بقيمة 70 ألف شيقل (نحو 22 ألف دولار أميركي)، ثمّ قرّرت بعد كلّ تلك الأعوام إصدار قرار بهدم المنزل ذاتياً تحت طائلة غرامة مالية كبيرة، بالإضافة إلى مبلغ 100 ألف شيقل (نحو 31 ألف دولار) كتكاليف هدم إن نفذّتها جرافات بلدية الاحتلال في القدس. وكان قرار عابدين أن يهدم بيدَيه المنزل الذي بناه بيدَيه، على الرغم من صعوبته وممّا تركه من ألم في نفسه. ويؤكّد: "كان قراراً صعباً... تخيّل أن تهدم بيتك بيدَيك!".
مأساة هاتَين العائلتَين أثارت حالة من الغضب في صفوف المقدسيّين الذين باتوا هذه الأيام يواجهون التهديد الأكبر في ما يتعلّق بحقهم في السكن والإقامة من خلال إرغامهم على هدم منازلهم بأيديهم، علماً أنّهم في الوقت نفسه يرون في كلّ يوم مباني تعلو في المستوطنات الإسرائيلية المُقامة على أراضيهم. يحمّل محمد أبو الحمص، عضو لجنة الدفاع عن أراضي العيسوية، بلدية الاحتلال في القدس "مسؤولية وفاة الفتى علي برقان بسبب ما تفرضه على المقدسيين من سياسات الهدم الذاتي الظالمة". ويقول أبو الحمص لـ"العربي الجديد" إنّ "ما حدث لبرقان قد يتكرّر مستقبلاً، ولا بدّ من أن تواجَه هذه السياسة برفض من قبل المقدسيين، على الرغم ممّا سوف يلحق بهم من أذى ومن عقوبات مالية". يضيف: أنا أوجّه ندائي إلى كلّ المؤسسات والهيئات والقوى المقدسية لاتّخاذ موقف جماعي واضح من سياسة الهدم الذاتي هذه". ويرى مقدسيون أنّ وفاة علي برقان تشكّل فرصة لوضع مأساة المقدسيين على سلم الأولويات الإعلامية، متسائلين، ومن بيهم أبو الحمص، عن دور الصحافة الفلسطينية في متابعة ما يجري من عمليات هدم ومواكبتها، إذ يكاد لا يمرّ يوم من دون عملية هدم ذاتي. وثمّة عائلات كثيرة تنفّذ الهدم من دون أيّ تغطية إعلامية، فلا يعلم بذلك إلا الجيران وبعض الأقارب.
ومأساة عائلة عابدين لم تكن الأخيرة، فبعد هدم منزله سُجّلت خمس عمليات هدم أخرى، نصفها هدم ذاتي في سلوان وجبل المكبر، بالتالي فإنّ ما شيّده مهنّد عابدين على مدى 11 عاماً أُضيف إلى قائمة طويلة من عمليات الهدم الذاتي التي نفّذها مقدسيّون بأيديهم، منهم العشرات في بيت حنينا. وكانت قد سبقته إلى ذلك أخيراً عائلتا خضر والعبيدي، علماً أنّ ثمّة قاسما مشتركا بين العائلات الثلاث هو أنّ قرارات الهدم المفروضة أتت بذريعة البناء غير المرخّص. وهذا كان في الحقيقة مقدّمة تسهّل على جمعيات استيطانية الاستيلاء على أراض تدّعي ملكيتها، سواء في بيت حنينا وحيّها المعروف بحيّ الأشقرية أو في سلوان والشيخ جرّاح حيث تستهدف تلك الجمعيات الأحياء لتعزيز استيطانها.
وبحسب ما تفيد معطيات رسمية فلسطينية صرّح بها وزير القدس في الحكومة الفلسطينية فادي الهدمي، فإنّ سلطات الاحتلال هدمت منذ مطلع عام 2021 وحتى كتابة هذه السطور، نحو ثمانين مبنى من بينها 65 منزلاً حتى نهاية شهر يوليو/ تموز من هذا العام. وثمّة عشرات المنازل الأخرى المهدّدة بالهدم، من بينها نحو 100 منزل في حيّ البستان على أراضي بلدة سلوان إلى جنوب المسجد الأقصى.
تجدر الإشارة إلى أنّه إلى جانب عمليات الهدم الذاتي التي نُفّذت هذا العام من قبل مقدسيّين، ثمّة عمليات هدم مماثلة جرت خلال عامي 2019 و2020 الماضيين، وقد سُجّل ارتفاع في عدد المقدسيين الذين اضطرّوا إلى هدم منازلهم بأنفسهم بعدما بنوها بدون ترخيص. ويختار الأهالي هذه الطريقة لكي يتجنّبوا دفع عشرات آلاف الشواقل لبلدية الاحتلال في القدس في حال نفّذتها هي بآليّاتها، وفق ما يأتي في تقرير لمركز "بيتسيلم" الإسرائيلي لحقوق الإنسان، الأمر الذي تسبّب في تشريد عشرات الأسر التي تضمّ عدداً كبيراً من الأطفال.