أدّت الكثافة السكانية في الشمال السوري والظروف النفسية التي خلّفتها الحرب وتغيّر نوعية الطعام والشراب واعتماد السكان على مواد تدفئة وطهي بدائية إلى انتشار أمراض تنفسية وصدرية عديدة، لعلّ أبرزها وأخطرها مرض السلّ الذي تتسبّب فيه جرثومة تدعى عصية السلّ، فتدخل الجسم عن طريق التنفّس ثمّ تهاجم الرئتَين وتستقر فيهما، قبل أن تطاول أعضاء أخرى من الجسم كالجهاز العصبي والعظام والأمعاء.
ويضمّ الشمال السوري مركزاً واحداً مختصاً في علاج هذا المرض، ويُقدَّم الدواء للمرضى مجاناً بسبب ارتفاع ثمنه والوضع الاقتصادي المتردّي لسكان هذه المنطقة التي يقطنها أكثر من أربعة ملايين نسمة، علماً أنّ نحو مليون ونصف مليون منهم يتجمّعون في مخيمات تُعَدّ بيئة خصبة لانتقال الأمراض والأوبئة، بسبب الكثافة السكانية وقرب الخيام من بعضها والاشتراك في مصادر المياه والحمامات، بالإضافة إلى قلة الرعاية الطبية والعدد المحدود للأطباء والمراكز الصحية.
يقول الطبيب المتخصص في الأمراض الصدرية والتنفسية ومدير مركز السلّ في مدينة إدلب، عبد الرؤوف محمود حاج يوسف، لـ"العربي الجديد": "نلحظ زيادة في نسبة أعداد مراجعي مركز السلّ تُقدَّر بما بين 10 إلى 15 في المائة مقارنة بعام 2020، وفي بعض الأحيان، يُشخّص المرض لدى ثلاثة أشخاص في اليوم الواحد، علماً أنّ هؤلاء المراجعين يعانون من السعال والزلة التنفسية والحمّى". ويشير حاج يوسف إلى أنّ "أعمار المراجعين تتراوح ما بين 30 و60 عاماً، وهم من الجنسَين، وقد بلغ متوسط عدد المراجعين شهرياً 300 شخص، علماً أنّ "130 مريضاً من بين الذين يخضعون للعلاج في المركز هم من محافظة إدلب وحدها. وتُقدَّم للمصابين الأدوية الرباعية والثنائية والثلاثية الخاصة بالأطفال، بالإضافة إلى أدوية السلّ المقاوم والحسّاس، نظراً إلى ارتفاع ثمنها وندرتها في الصيدليات الخاصة، بالإضافة إلى خدمات التحليل والرعاية والمتابعة. ويحوي المركز قسماً للتوعية الصحية بهذا المرض، في حين تنشط فرق توعية ميدانية مع عيادة متنقلة لمسح مرض السلّ في مدينة إدلب".
وبحسب حاج يوسف "فقد لوحظت الزيادة في الأمراض التنفسية منذ بدأ السكان بالاعتماد على وسائل التدفئة البدائية التي تعمل بالوقود المكرّر والفحم والبلاستيك، وما يتوفّر من أحذية وألبسة بالية". ويشرح أنّ "التعرّض إلى الأبخرة والغازات الناتجة عنها، خصوصاً التي يُحرق فيها النايلون والمواد البلاستيكية، يؤدّي إلى تفاقم معظم الأمراض الرئوية، من أبرزها الربو والتوسع القصبي والتهاب القصبات المزمن. كذلك يؤدي استنشاقها بحدّ ذاته إلى الإصابة بالربو والتهاب القصبات المزمن الانسدادي وسرطانات القصبات، خصوصاً إذا تعرّض الفرد إلى ذلك لفترات طويلة".
من جهته، يقول الطبيب المتخصص في الأمراض الصدرية والداخلية أحمد حسن، لـ"العربي الجديد"، إنّ "من أبرز أسباب انتشار هذا المرض، الذي ينتقل عن طريق العطاس والسعال والبلغم، الكثافة السكانية التي تسبّبت فيها حركات النزوح المتكررة وكذلك نقص التغذية، بالإضافة إلى التشخيص المتأخر للأمراض التنفسية. وتُعَدّ المخيمات بيئة مؤاتية لانتشار هذا المرض بشكل سريع". ويشير حسن إلى أنّ "السلّ أحد أكثر الأمراض التي تنتشر في البيئات الفقيرة ومناطق الحروب، لا سيّما في ظلّ سوء الوضع النفسي للسكان وقلة التغذية"، موضحاً أنّ "السلّ الرئوي هو أكثر أنواع السلّ المنتشرة في الشمال السوري، وهو مرض معدٍ. ويسجّل المشفى الوطني في إدلب نحو ثلاث إصابات أسبوعياً، فيما تتراوح فترة العلاج ما بين ستة أشهر وثمانية، وقد تصل إلى تسعة إذا لم يلتزم المريض بتناول الأدوية واتّباع الإرشادات الصحية".
وفي تقرير أصدره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، بيّن أنّه رصدت بين شهرَي يوليو/ تموز 2019 وسبتمبر/ أيلول 2020 مئات إصابات السلّ شمال غربي سورية، وما زالت التحديات قائمة، في حين أنّ حلقات ما زالت مفقودة بهدف التنفيذ الأمثل لاستراتيجية القضاء على السلّ وفقاً لإرشادات منظمة الصحة العالمية. وأشار التقرير إلى أنّه منذ يوليو/ تموز 2020، تمّ الإبلاغ عن زيادة في الإصابات بالسلّ الحساس للأدوية والسلّ المقاوم للأدوية المتعدّدة، المكتشفَين في المنطقة، بإجمالي 12 إصابة في الفترة المشمولة بالتقرير الأخير. وأكّد أنّ السلّ المقاوم للأدوية، الذي يتطلب علاجاً أكثر تعقيداً من السلّ الحساس للأدوية، يُعَدّ أحد أكبر العقبات التي حالت دون تحقيق رؤية عام 2020 لإنهاء مرض السلّ.