خلّف انهيار سدَّي وادي درنة خلال العاصفة "دانيال" التي ضربت مناطق شرقي ليبيا ليل 11 سبتمبر/أيلول الماضي، عشرات آلاف الضحايا والمفقودين والمشردين، وكشفت تصريحات المسؤولين، قبل العاصفة وبعدها، عن عدم الاعتناء بالسدَّين، أو متابعة أوضاعهما.
وسبّبت زيادة ضغط المياه المتدفقة انهيار السد الأول، وهو سد "بومنصور"، وسعته 22.5 مليون متر مكعب، ويقع على بعد 13 كيلومتراً من مدينة درنة، فتدفقت منه كميات كبيرة من المياه اجتاحت السد الثاني، وسعته 1.5 مليون متر مكعب، والذي يقع على بعد كيلومتر واحد فقط من المدينة.
وقال مكتب النائب العام الليبي، الاثنين الماضي، إن عميد بلدية درنة وسبعة مسؤولين آخرين أُلقي القبض عليهم للاشتباه في سوء إدارة وإهمال أديا إلى انهيار سدَّين، ما سبّب اجتياح الفيضانات للمدينة.
ويتوزع في ليبيا العديد من السدود، أهمها سدّ "وادي المجينين" في جنوب العاصمة طرابلس، وسدّا "وادي لبدة" و"وادي كعام" الواقعان إلى الشرق من طرابلس، وسد "وادي سوف الجين" الواقع إلى الجنوب الشرقي من طرابلس، وسد "وادي غان" الواقع إلى الجنوب الغربي من طرابلس، وسد "وادي الوشكة" القريب من مدينة سرت (وسط شمال)، وسدّا "وادي القطارة" و"وادي جازا" شرقي بنغازي، بالإضافة إلى سد "بومنصور" الذي انهار أخيراً.
وتعاني جميع تلك السدود من إهمال ممتد لعقود، إذ لم تُجرِ أيٌّ من الحكومات المتعاقبة عمليات الصيانة الدورية المطلوبة، ما أدى إلى تهالك السدود، خصوصاً أن أحدثها يعود تاريخ إنشائه إلى ثمانينيات القرن الماضي، وأقدمها بُني في الستينيات.
وقبل العاصفة، قال وزير الموارد المائية في حكومة مجلس النواب، محمد دومة، لوسائل إعلام محلية، إن "سدود البلاد متماسكة. مررنا على أغلب السدود التي توقعنا أن تحدث فيها مشاكل، لكن أوضاعها جيدة إلى حد كبير، وزودناها بالمولدات والمعدات التي تحتاجها". لكنه لم يظهر مجدداً للحديث عن الأمر بعد انهيار سدي وادي درنة.
تعاني جميع سدود ليبيا من إهمال يمتد إلى عقود سابقة
بعد يومين على العاصفة، حذر أحمد المسماري، المتحدث باسم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، سكان الأحياء الواقعة في شرق مدينة بنغازي من مخاطر انهيار سد "وادي جازا" بعد امتلائه بمياه الفيضان، وطالبهم بمغادرة المنطقة، ثم تراجع عن تصريحاته تلك بعد يوم واحد، مشيراً إلى أنه تلقى معلومات مغلوطة عن السد، وأنه بنى إنذاره على فيديوهات تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر تشققات في السد.
وأعلنت بلدية بنغازي بعد تصريحات المسماري، تفريغ فرق تابعة لها وادي جازا من مياه الفيضان، وبدء تنظيف مجرى الوادي، وإصلاح بوابته الرئيسية، وطمأنت السكان بشأن سد "وادي القطارة"، ونفت صحة الشائعات المتداولة بشأن احتمال انهيار السد، مرجعة أسباب الأضرار التي بدت على سد "وادي جازا" إلى أعمال السرقة والتخريب، من دون أية إشارة إلى قدم بنائه، أو عدم صيانته منذ سنوات طويلة.
بدورها، أعلنت حكومة الوحدة الوطنية، في بيان، الخميس الماضي، تشكيل لجنة لوضع تصور كامل للسدود من الناحية الفنية، على أن يشمل أي مشروع جديد تشييد سدود بدرنة، ومعالجة الوديان والسدود المحيطة بالمدينة كي لا تتكرر الأزمة.
وفي مطلع الأسبوع الماضي، تفقد عدد من عمداء البلديات وقيادات الأجهزة الأمنية بالعاصمة طرابلس سد "وادي المجينين"، وشملت الزيارة مسار الوادي من بلدية "سوق الخميس" حتى بلدية "أبو سليم"، وذلك للوقوف على أبرز التعديات القائمة، واتخاذ التدابير اللازمة قبل حلول فصل الشتاء.
وأفادت منصة "حكومتنا" الرسمية بأن إدارة إنفاذ القانون بوزارة الداخلية باشرت بحصر المباني الواقعة في حرم وادي المجينين، والبدء بمطالبة سكانها بإخلائها لكون بنائها مخالفاً للقانون.
و"وادي المجينين" من أكبر أودية الساحل الغربي في ليبيا، ويقع في القطاع الجنوبي من العاصمة طرابلس، ويمر باتجاه البحر مخترقاً وسط العاصمة، وصولاً إلى الشاطئ. وشملت الإجراءات تنظيف مجرى الوادي، وصيانة المتنفس الخاص به، وإزالة التعديات الواقعة في مسار السيول.
يقول أستاذ الموارد المائية والبيئية، المهدي الشاوش، إن "انهيار سدي وادي درنة، وما خلفه من أضرار بشرية ومادية، شكل ضغطاً كبيراً على السلطات، وأدى إلى اهتمامها بالسدود المنتشرة في البلاد". ويصف الخطوات التي تجريها الحكومتين في أودية جازا والقطارة والمجينين بأنها "مستعجلة"، موضحاً أن "نتائج الكارثة في درنة، تجعل الاحتمالات خطيرة بشأن سدود الأودية الأخرى، لكن هناك مخاوف من كون التصريحات الرسمية غير دقيقة، فالأودية تشرف على أكبر مدن البلاد".
وكشفت بيانات مكتب النائب العام الأخيرة عن تعاقدات أجرتها الدولة الليبية في عام 2003، بشأن إعداد تقييم لوضع سد وادي درنة، وبدء عمليات صيانته، قبل توقفها في عام 2011.
لكن الشاوش يؤكد أن "سدود البلاد لم تتوافر لها الصيانة الدورية منذ ما يزيد على ثلاثين سنة، وهناك جملة من الأخطاء بشأن متابعة أوضاعها، من بينها أن القدرات الاستيعابية للسدود تقديرية، وأنها لم تُنشأ على أسس سليمة، وبعضها بُنيَ من دون دراسة لنوع التربة، ولو حصل ذلك، لتم التأكد أن أغلبها بُني على صخور ترابية تزيد من احتمالات انجرافها، كذلك إن التصاميم الهندسية للسدود لم تشمل أية دراسات جيولوجية حول أنواع الأودية، فبعض الأودية مرتبطة بأودية أخرى التوائية أو انكسارية تراكمت انسدادات ترابية بينها وبين الأودية التي أقيمت عليها سدود، وتساقط كميات كبيرة من الأمطار سيزيل تلك الانسدادات الترابية، فتتحول تلك الأودية بشكل فجائي إلى مصبات إضافية، وترفع من مستوى تدفق المياه بقدر لا تحتمله السدود، وهذا ما حدث في سد وادي درنة".
كارثة درنة تنذر باحتمالات خطيرة بشأن سدود بقية أودية ليبيا
ويضيف: "القدرة الاستيعابية لسدي وادي درنة صممت على أساس الوادي فقط، من دون أي اعتبار لروافد الأودية الأخرى التي تصل تشابكاتها وامتداداتها إلى 500 كيلومتر مربع، وتحولت تلك الروافد إلى مصبات مباشرة في وادي درنة بعد تساقط كميات كبيرة من الأمطار، لكن ذلك لا يعفي السلطات من المسؤولية المباشرة، فالأمر لا يعود فقط إلى التصميم، بل إلى عدم وجود نظام إنذار مبكر، كما كانت صمامات تفريغ السدين معطلة".
يتابع: "كمية الأمطار في وادي جازا لم تكن كبيرة بالحجم الذي يتجاوز قدرة السد، لكن الخطر كان محدقاً بالفعل، لولا تدارك الأمر عبر إصلاح الصمامات المتهالكة والمعطلة بشكل سريع لبدء عملية تفريغ حمولته".
وفيما تتوجه عناية سلطات حكومتي البلاد إلى سدود مدينتي بنغازي وطرابلس، يلفت الشاوش إلى أن "الكثير من المدن تواجه خطراً حقيقياً، والإصلاحات التي تقوم بها السلطات في وادي المجينين غير كافية، ففي العام الماضي، كانت هناك تحذيرات من انهيار السد، لكن بلدية قصر بن غشير، وهي أقرب البلديات إليه، كانت تنفي ذلك، ومدينة سرت كمثال، تحيط بها أودية العريبات وجارف والحنيوة والزيد، وكل سدود هذه الأودية متهالكة، ولم تجرِ فيها أية صيانة دورية منذ سنوات".
ويلفت الناشط البيئي محيي الدين سلطان، إلى مسؤولية المواطنين عن زيادة حجم مخاطر وآثار السيول والفيضانات، قائلاً: "في درنة، كان الضرر الأكبر في المساكن التي بناها مواطنون في نهاية مجرى الوادي قريباً من الأحياء القديمة، كذلك بنى مزارعون بيوتهم داخل مزارعهم التي تقع في بطن أول الوادي".
ويضيف سلطان لـ"العربي الجديد": "تلك المباني شكلت عائقاً إضافياً، فحتى إن كان انفجار السد قد أدى إلى فيضان كبير وصل إلى أحياء مجاورة لضفتي الوادي، إلا أن انسياب المياه باتجاه البحر في حال عدم وجود المباني المعرقلة كان سيخفف من حجم الأضرار. المسؤولية يتشارك فيها المواطنون الذين قاموا بالبناء العشوائي المخالف، ومسؤولي البلدية الذين لم يقرروا إجراءات عقابية بحق المخالفين، والأمر متكرر في مجاري بقية الأودية، وينبغي إزالة تلك المنازل المخالفة، لكن هذا لم يحدث بعد رغم أنه أهم الإجراءات الوقائية قبل حلول فصل الشتاء، ويلي ذلك التعاقد مع شركات لصيانة أو إعادة بناء السدود وفق مواصفات تمكنها من الصمود".