على وقع هرطقة سياسية وفي دردشة رسمية سرّبت تفاصيلها لوسائل الإعلام، اتُّخِذ القرار وحُسم تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي في لبنان، لحين انتهاء شهر رمضان. توقيت محلي وفق خط زمني جديد بات يُعرف بتوقيت "بري – ميقاتي". من دون سابق إنذار، وقبل يومين من موعد تقديم الساعة ساعة واحدة كما جرت العادة في هذه الفترة من السنة، منع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عقارب الساعة من التقدم. فكان أن اشتعلت الساحة اللبنانية بحربٍ كلامية واتهامات طائفية ولسعاتٍ مذهبية وعنصرية مقيتة، في الأيام الماضية، غطّت على البؤس المعيشي الصارخ الذي يعاني منه اللبنانيون وشغلت المرجعيات والمواطنين إلى أن قرّر رئيس الحكومة دعوة مجلس الوزراء للاجتماع يوم أمس، والعودة عن قرار حكومته بتأجيل تقديم الساعة، والبدء بالتوقيت الصيفي بدءاً من ليل غد الأربعاء.
ستون دقيقة كانت كفيلة بخلق انقسامٍ طائفي حاد، باعتبار أن "المكوّنين الشيعي والسنّي قلبا المعادلة وحدّدا التوقيت وفق أهواء صيامهما، ضاربين عرض الحائط بحقوق المسيحيين والطوائف الأخرى" بحسب الرواية الطائفية المسيحية الدارجة هنا. تعديل أقحم لبنان رسميّاً وفعليّاً في توقيتين مختلفين، ولوّح بفتنة قد تجرّ البلاد إلى ما قد لا تحمد عقباه في وقت يختلف فيه اللبنانيون حول أغلب الملفات التي ترتبط بمصير البلد. وكشفت وسائل التواصل الاجتماعي كيف انزلق كثيرون إلى سجالات خطيرة وحفلة جنون قادها سياسيّون طائفيّون طالما عُرفوا بدهائهم في إغراق اللبنانيّين بمصائب وويلات لا تنتهي فصولها وتلهيهم عن العناوين المعيشية التي تهمهم. تبعية عمياء ينسجها سياسيون وزعماء طائفيون أمعنوا في التنكّر لأوجاع المواطنين وتقاذف المسؤوليات، في محاولة لتبرير سياساتهم المدمّرة للبلد الذي يعاني من انهيار اقتصادي واجتماعي هو الأسوأ في تاريخه الحديث.
المصائب واحدة ولو اختلف التوقيت
لم يشفع تزامن صيام المسيحيين والمسلمين هذه السنة، فكان أن فرّقتهم الساعة الزمنية. وعوض أن يركز الجميع على الهموم المشتركة في بلد يئنّ الجميع فيه، من جميع الطوائف والمكوّنات، فقراً وذلّاً وجوعاً وقهراً، بسبب الغذاء والدواء والمستشفى والمدرسة والنقليات اختاروا التناحر وشحذ النفوس، فكان أن انساق كثيرون خلف شعارات فئوية وعنصرية خطت بالبلاد خطوة إضافية نحو قعر الهاوية الذي انحدر إليه الجميع. وأكدت إشكالية التوقيت غياب رجال دولة يضعون حدّاً للمهزلة التي استمرّت أياماً ويكبحون شبح الانقسام و"الوحدة غير المسبوقة" لبعض المكونات الطائفية، وفق قول البعض، متمنّين لو أنّ الجميع تكاتف لانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة تسارع لإنقاذ البلاد وإيجاد الحلول لمشكلات المواطن، بالحماس الذي انبروا يدافعون فيه عن توقيت زمني لا يقدّم ولا يؤخر في حياة المواطنين شيئاً.
وأضيف إلى يوميّات اللبنانيّين إرباك جديد، انغمسوا معه في حالة ضياع رهيبة في مواعيد سفرهم وعملهم ودوامات المدارس والجامعات والمصارف والإدارات العامّة وكل ما يتعلق بيومياتهم. الأمر الذي انسحب كذلك على مواعيد عمل المستوصفات والمختبرات الطبية وتوقيت الجلسات العلاجية والعمليات الجراحية، إلى توقيت ساعات الاشتراك بالمولدات الكهربائية الخاصة وحجز سيارات الأجرة وغيرها الكثير.
فاللبنانيون الذين يختبرون تقلبات جنونية في سعر صرف الدولار الأميركي وأسعار المحروقات والكهرباء والغلاء الفاحش في السلع والمواد الغذائية والاستهلاكية، كانوا حتى الأمس القريب يقضون معظم أوقاتهم في تصفّح تحديثات التطبيقات الخاصة بسعر صرف الدولار ومنصة "صيرفة" وجدول المحروقات، في حين بات توقيت الساعة شغلهم الشاغل والأهم، في الأيام الماضية.
وأشعل القرار المفاجئ بتأجيل اعتماد التوقيت الصيفي حتى منتصف ليل 20-21 إبريل/ نيسان المقبل، الذي اتفق عليه يوم الخميس الماضي بري وميقاتي، تماشياً مع شهر رمضان، موجة غضب عارمة واتّخذ منحى طائفيّاً خطيراً. وعلى وقع التغريدات والمواقف المحتدمة، انقسم الشارع بين مؤيد ومعارض للتوقيت المحلي المتخلف ساعة عن التوقيت العالمي (يقتضي التوقيت الصيفي تقديم الساعة ساعة واحدة في لبنان اعتباراً من ليل السبت – الأحد الأخير من شهر مارس/ آذار من كل عام). واندفع عدد من السياسيين والأحزاب والنقابات والمرجعيات الدينية ووسائل الإعلام، المسيحية على وجه التحديد، إلى إطلاق المواقف المندّدة بـ"التوقيت الطائفي المعيب لواجهة لبنان الدولية"، داعين إلى "عدم الالتزام به، والإبقاء على التوقيت العالمي". وفي حين غرّد أحد السياسيين بالقول: "قطار الزمان يسير إلى الأمام ولن نسمح لأي كان بأن يُخرج لبنان من التوقيت العالمي بعدما قاده خارج النظام الكوني"، علّق آخر بالقول: "لهم دويلتهم ولنا لبناننا، لهم توقيتهم ولنا توقيتنا". وفي المقلب الآخر، انتقد بعض السياسيّين المؤيّدين للقرار، ردة فعل زملائهم بالقول: "عقارب ساعاتهم لا تعمل إلا على توقيت الفتنة وأحلام التقسيم".
تخبّط شعبي يستجدي وقف المهزلة
يأسف الموظف في القطاع العام، محمد كنج، لحالة الضياع التي تخبّط فيها وعائلته. فالأب لستة أولاد في مدرسة الفرير (مدرسة كاثوليكية)، كان سيضطر طيلة شهر رمضان إلى الاستيقاظ باكراً ليقلّهم إلى مدرستهم، التي قرّرت اعتماد التوقيت الصيفي، في حين أنّ دوامه يبدأ عند الساعة التاسعة صباحاً وفق التوقيت الشتوي، ما يعني العاشرة وفق التوقيت الصيفي.
يقول: "بدأت أناقش مع زوجتي الحل الأنسب. فقد كنتُ أوصلهم قرابة الساعة السابعة أو أكثر بقليل وأكمل طريقي إلى العمل، لكن بعد القرار بات عليّ إيصالهم عند السادسة والنصف وفق التوقيت الشتوي أي السابعة والنصف وفق التوقيت الصيفي، وأعود إلى المنزل ومن ثمّ ألتحق بدوام عملي لاحقاً. إنّها مشكلة ومعاناة حقيقيّة". وإذ لفت إلى أنّ "توقيت هاتفي يختلف عن توقيت ساعة الحائط"، يضيف ساخراً: "مدرسة أولادي في منطقة بدارو ونحن نقيم في منطقة الطيونة (منطقتان متجاورتان في بيروت)، وقد بات لكل منهما توقيتها للأسف".
من جهتها، تشير الموظفة الإدارية في أحد المستشفيات الخاصة، جورجيت صليبا، إلى أنّها أُبلغت بـ"ضرورة الالتحاق بالعمل وفق التوقيت الصيفي العالمي"، قائلةً: "لا يمكنهم تغيير الكون كما يشاؤون، ولا التلاعب بالوقت وغيره بكبسة زر. كفانا خزعبلات وتجاوزات، فقد طفح الكيل. القرار لم يؤدِ إلا إلى إثارة النعرات الطائفية والمزيد من التخبّط والضياع. خربوا بيوت الناس وما زالوا يمعنون في ذلك".
أمّا قصة فاتن زين، فتجسّد الضياع الذي غرق فيه اللبنانيون، حيث إنّها كانت مضطرة لإرسال ابنها عمر إلى مدرسته في منطقة عين الرمانة (بيروت) الملتزمة بالتوقيت الصيفي، في حين ستوصل شقيقه علي إلى مدرسته في منطقة الطريق الجديدة (بيروت) الملتزمة بالتوقيت الشتوي. وتسأل: "أخبروني ماذا أفعل؟ نحن نعيش حالة ضياع كامل، لا نعرف في أي ساعة يتوجب علينا الاستيقاظ وتجهيز أنفسنا للانطلاق ولا نعرف كيف سنرتب أمورنا ونلحق بكل توقيت". فاتن، التي تبلغت لاحقاً اعتماد التوقيت الصيفي في مدرسة ابنها علي، قبل أن تتبلّغ في رسالة أخرى العودة للتوقيت الشتوي، أبدت غضبها ممّا آلت إليه الأمور، كاشفةً أنّها كانت تفكّر جديّاً بتعطيلهما عن المدرسة لحين إيجاد مخرج للأزمة، خصوصاً أنّ ولدَيها لم يداوما الأسبوع الماضي ليومين، إمّا بسبب التظاهرات أو بسبب التعطيل والإضرابات. تتابع: "لا يمكن استمرار هذه المهزلة وهذا التشتّت". الأم لولدين، والمسؤولة عن إحدى الجمعيات الخيرية، تضيف باستهجان: "كيف لي أن أنظّم دوام الموظفين وأغلبهم طلاب جامعات، سبق أن رتّبتُ ساعات عملهم بشكلٍ لا يتضارب مع محاضراتهم الجامعية. نحن اليوم في مأزق كبير".
سخيف وتافه
يقول النائب التغييري فراس حمدان، في حديثه لـ"العربي الجديد" إن "موضوع التوقيت سخيف وتافه، ولا يعدو كونه سخرية جرت في جلسة هرطقة وقهقهة تدلّ على آلية إدارة البلاد ومعالجة باقي الملفات. هل هناك من عاقل يسأل على أيّ توقيت نسير؟ إنّها محاولة لشد العصب وإلهاء الناس عن مواضيع أخطر بكثير تمسّ حقوق الشعب اللبناني، وبالتالي تحييد الأنظار في لعبة طائفية بشعة عن أمور خطيرة تشهدها البلاد، من تقرير مخيف لصندوق النقد الدولي وفضائح تلزيم المطار ومخالفات بالجملة". يتابع: "لن تقع فتنة في لبنان، ولا قدرة أصلاً على القيام بفتنة". ويرى أنّ "محاولات تأجيج الفتنة لا علاقة لها بالتوقيت، إنّما بوصول المنظومة السياسية إلى حائط مسدود في ما يتعلق بكيفية إعادة بناء الدولة وكبح الانهيار وردم الهوة الاقتصادية والمالية وتحميل الخسائر ومحاسبة المسؤولين والبتّ بقضية انفجار مرفأ بيروت. للأسف هناك جزء مشحون يلعب على الوتر الطائفي والمذهبي".
وفي مشهد سوريالي ومخزٍ، انقسمت ساعات المواطنين بين "توقيت مسلم وآخر مسيحي"، وجرى التداول بفيديو لشاشتين بتوقيتين مختلفين في مطار رفيق الحريري الدولي (بيروت)، وصور لتوقيت مختلف بين محرك البحث "غوغل" وشاشة الهاتف منتصف ليل السبت – الأحد، حيث قال البعض: "حتّى الهاتف لم يعد ذكيّاً في لبنان، وحتى غوغل ضاع"، وذلك على وقع وسومات #التوقيت الصيفي"، و"#لن نلتزم" و"#العيش المشترك. كما انتشرت روابط تعرض التوقيت الصيفي العالمي وتوقيت بري – ميقاتي (BMT). وعند تداولها، انهالت التعليقات الساخرة من وجود منصات للوقت "في سابقة لا تحصل إلا في لبنان"، وتحدث البعض عن منصة "طيرفة" للوقت أسوة بمنصة "صيرفة" للدولار. وفي حين انبرى البعض إلى إعلان العصيان المدني، استغرب آخرون "كيف سكت الشعب عن قضايا معيشية وحياتية وعن أزمة اقتصادية خانقة وفراغ رئاسي وتعطيل، من دون اللجوء إلى أي عصيان".
خطوط تماس جديدة
وبدا الانقسام أكثر وضوحاً لدى روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تحدّثت التغريدات عن "توقيتين في لبنان، وربما نصل لتوقيت ثالث وفق السوق السوداء، أسوة بسعر صرف الدولار". فكتب أحدهم قائلاً: "حتى الوقت بات شرقية وغربية (في إشارة لانقسام بيروت إلى شرقية مسيحية وغربية إسلامية خلال الحرب الأهلية اللبنانية)". في وقت، سخر آخر قائلاً: "الموحدون الدروز سيقسمون الفارق بالنصف بين المسلمين والمسيحيين وسيقدمون التوقيت نصف ساعة، حرصاً على العيش المشترك". وكتب أحدهم: "ساعة الفتنة الطائفية قد حلّت ويا غيرة الدين، لقد اتّضحت كذبة العيش المشترك". في حين سأل آخر ممازحاً: "إلى الإخوة المسيحيين، سبقتونا بساعة، طمنونا شو صار (ماذا حدث) بالدولار، طلع أو نزل؟ وأخبرونا هل شعرتم بهزة أرضية أم لا؟". كما أطلق ناشطون مؤيدون لقرار التأجيل، وسم "#ساعة من حقنا والرئيس يمثلني".
قرار "الإجر عإجر" (وضعية الساق فوق الأخرى) كما وُصف، نسبة إلى اتخاذه خلال الجلسة الخاصة بين بري وميقاتي، كانت قابلته ردود فعل عديدة. فقد أعلن المكتب الإعلامي في الصرح البطريركي في بكركي، التزامه تقديم الساعة، رفضاً لـ"القرار المفاجئ الذي اتّخذ ارتجاليّاً من دون التشاور مع سائر المكونات اللبنانية، ومن دون أي اعتبار للمعايير الدولية". ودعت المطرانيات والأبرشيات والأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية إلى "الالتزام بقرار بكركي واعتماد التوقيت الصيفي لتحديد مواعيد القداديس والصلوات والاحتفالات الدينية، لما لقرار التأجيل من انعكاسات على حياة الكنيسة".
تمرّد وتشتّت داخل الحكومة
وبعد دعوة وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال، هنري خوري، ميقاتي إلى "الرجوع عن قرار التأجيل، درءاً للمخاطر الكارثية التي قد تنجم عنه"، خرج قرار وزير التربية والتعليم، عباس الحلبي، بحسمه اعتماد التوقيت الصيفي للمدارس والمهنيات الرسمية والجامعات، ليعبّر بشكلٍ صارخ عن التشتّت حتى داخل الحكومة ذاتها. غير أنّ الحلبي ما لبث أن تراجع عن قراره بعد أن تبلّغ من ميقاتي أنّه بصدد الدعوة لعقد جلسة لمجلس الوزراء من أجل بحث التوقيت الصيفي، بحيث ترك الحلبي للمسؤولين عن المدارس والمهنيات والجامعات الرسمية والخاصة، حرية اختيار وقت فتح مدارسهم ومؤسّساتهم أمس الإثنين، والعمل بالقرار الذي سوف يصدر عن مجلس الوزراء في جلسته، ابتداءً من اليوم الثلاثاء.
وكانت بعض إدارات المدارس أرسلت رسائل إلى أولياء التلاميذ باعتماد النظام الشتوي، قبل أن تعود وترسل رسائل مغايرة، بعد صدور قرار وزير التربية، آملةً أن "يهدي الله السياسيّين لما فيه خير البلاد". هذا، واستمر الأهالي ليل الأحد - الإثنين باستقبال رسائل متضاربة أدخلتهم في نفق التوقيتين. كما تمّ التداول عبر تطبيق "واتساب" برسائل تهدّد بمعاقبة التلاميذ المخالفين "في حال عدم التزامهم التوقيت المعتمد من قبل المدرسة"، في إشارة إلى تمترس عدد من المؤسّسات التربويّة خلف حسابات فئوية وانتماءات مذهبيّة، تعزّز التقوقع والانغلاق بدلاً من توطيد الانصهار والوطنية.
وأعلنت محطات تلفزيونية ومواقع إلكترونية عدة عدم التزامها بقرار الحكومة، في حين كشف عدد آخر التزامه التأجيل وسط دعوات لمقاطعة القنوات التلفزيونية غير الملتزمة بالتوقيت الشتوي "لحين عودتها عن قرارها الأرعن ومراعاتها الشركاء في الوطن".