لو أنّ لشجرة التبلدي العجوز تلك لساناً، لهتفت في وجه الكائن الحديدي المتوحش الزاحف نحوها: "احنن عليّ تكرّماً". ولأكملت العصافير الهاربة الموشّح، ولطارت في الفضاء لعنات العالمين بفضلها على الآلة ومن هم وراءها من متخذي قرار الإزالة.
لكنّ المأمورين من قبل شركات البترول كانوا قد أزالوا ما بين 15 إلى 20 مليونا من الأشجار في وقت وجيز، ومن بينها أشجار تجاوزت مائة عام من العطاء الاجتماعي والثقافي والجغرافي، إذ مثلت معالم كما النجوم في قبة السماء، كما هي حال "التبلدية أم عش" الواقعة بين حفيرة الدبيكر وأمانتيك، غربي كردفان، وتمر بها ظعائن عشيرة الزيود المسيرية عبر المرحال الشرقي، ويتوقفون عندها للتلاقي بآخرين، فيتبادلون أخبار المطر والأسواق.
ما زال صدى النداء الذي رفعه المهندس الزراعي، عوض كرشوم، يتردد، فـ"التبلدية أم عش" شهدت مراحيل أسلافه الرعاة، وحفظت أسرار حياتهم وأفراد عائلاتهم، ونمو قطعانهم، مثلما حفظوا لها الفضل في إيوائهم، وإيواء الطيور والكائنات الصغيرة الأخرى، لكنّها شركات التنقيب التي لا ترحم التاريخ البيئي، ولا تُدرك معنى النُظُم الايكولوجية التي تختل إن فقدت عنصراً واحداً.
ظلّ البروفيسور الراحل، مهدي بشير، ينادي في كلّ محفل بضرورة إعمال الموجهات العامة لمفوضية البترول والبيئة التي نشأت بموجب اتفاقية السلام الشامل 2005، بين الحزب الحاكم والحركة الشعبية - وقتها، لكنّ الأمر تركز على قسمة البترول بين الشريكين، ولم يهتم أحد بما ورد من تخصيص نسبة من العائدات لمعالجة الآثار المحتملة لعمليات التنقيب والاستخراج والنقل، والقضايا الاجتماعية الأخرى في ما يسمى بالمسؤولية المجتمعية للشركات، الأمر الذي يشكل وفق نبوءته - رحمه الله- مستقبلاً قاتماً على البيئة. وصدقت النبوءة، بل تفاقم الأمر وشركات التعدين عن الذهب تذهب بما تبقى من موائل، ونُظم بيئية.
في العام 2006 صدر قرار مفاجئ من دوائر السلطة بالخرطوم يقضي بتحويل حديقة الشهداء الملحقة بالقصر الجمهوري إلى موقف سيارات. وقمت بالتصدي للأمر وقتها بصحيفة "السوداني" وذكرت في ذلك التحقيق أنّ الحديقة المزروعة في العام 1903، جرى تطويرها عام 1939 على نمط حدائق قصر باكنغهام، على يدي مستر ومسز براون الاختصاصيين في المجال. وإلى جانب كون الحديقة آخر رئات وسط الخرطوم، كما عبرت البروفيسور سعاد سليمان، نائب رئيس الجمعية السودانية لحماية البيئة، أكدنا للرأي العام والمسؤولين المستهدفين من الحملة أنّ في الحديقة شجرة عجوزا جيء بها من إنكلترا، يكفي وجودها وحده لوقف قرار الإزالة. نجح الأمر، ونجت حديقة القصر والشجرة العجوز من الأفكار المتوحشة، فهل تنجو "التبلدية أم عُش" وأخواتها؟ وهل يتسنى لنا النجاح في وضع ما يحفظ لنا ما تبقى من تراثنا البيئي، والنُظُم الإيكولوجية في الدستور المقبل؟
(متخصص في شؤون البيئة)