بدأت موجة جديدة من النزوح باتجاه مدينة رفح في أقصى جنوب قطاع غزة بالقرب من الحدود المصرية، بعد أن ألقى الاحتلال الإسرائيلي مئات المناشير على مخيم النصيرات في وسط القطاع، الذي كان يضم نحو ربع مليون نازح من مناطق الشمال ومدينة غزة، تطالبهم بالنزوح مجدداً نحو الجنوب، كما لم تتوقف حركة النازحين إلى رفح من مدينة خانيونس التي أصبحت شبه فارغة.
تضم مدينة رفح 12 مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، وكانت تعمل ضمن عدة فترات، لكن جميعها تحولت إلى مراكز إيواء، وأصبحت أعداد النازحين في بعضها تفوق 14 ألف نازح، إضافة إلى 27 من المدارس الحكومية التي تؤوي آلاف النازحين، وتصل إليهم مساعدات إنسانية عبر وكالة "أونروا" وعدد من المنظمات الدولية.
وبدأ نزوح الغزيين إلى مدينة رفح منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي، لكن في نطاق محدود، فالنازحون الأوائل هم من كان لهم أقارب في المدينة، ثم زاد بشكل متدرج ليشمل النزوح إلى مراكز الإيواء، لكنها كانت آخر النقاط التي وصل إليها النازحون لعدم تصورهم أن يتواصل العدوان وعمليات التوغل الإسرائيلي.
تبلغ مساحة مدينة رفح قرابة 50 كيلومتراً مربعاً، ويتركز النازحون في المنطقتين الوسطى والغربية منها اللتين تبلغ مساحتهما 20 كيلومتراً مربعاً. ويقدر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن أكثر من نصف سكان القطاع باتوا نازحين إلى مدينة رفح، بمعدل مليون و300 ألف نسمة، وأن المزيد من الأشخاص يتوافدون إليها على مدار الساعة معتقدين أنها الملاذ الآمن الأخير على الرغم من أن شرق المدينة تعرض لقصف عنيف، كما يصنف الاحتلال مناطق في شرقها وجنوبها باعتبارها مناطق غير آمنة.
يتركز النازحون الغزيون في المنطقتين الوسطى والغربية من مدينة رفح
يقول محمود الشاعر، وهو أحد وجهاء عشائر مدينة رفح، لـ"العربي الجديد": "لا يوجد مكان خال من النازحين، والزحام وصل إلى درجة عدم توفر مساحة لمجرد الجلوس. الهم الأول للقادمين هو إيجاد خيمة، أو مأوى لهم أياً كان شكله وحجمه. أصبحت رفح كلها مخيم نازحين كبيراً منعدم الخدمات، ولا توجد حمامات، ولا يملك الناس أغطية، والمدارس ممتلئة، وباتت تمنع دخول النازحين الجدد لأنها مكتظة، والناس يعيشون في الشوارع وتحت أسقف المحال أياماً قبل أن يتدبروا أمورهم، ويعثرون على مكان ينامون فيه. نحن على أعتاب مجاعة كبيرة، والجوع في كل مكان، ولا أحد يتحرك لمنع ذلك".
وينتشر القلق من قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي باجتياح المدينة في ظل عدم وجود ضمانات تمنعه من فعل ذلك، وعدم الثقة بتصريحاته التي كانت تروج أن المناطق الوسطى والجنوبية آمنة، ثم تعرضت للقصف والاجتياح، وأفرغت من غالبية سكانها، لتكون رفح آخر مدينة في القطاع لم تطلب من سكانها المغادرة، في حين تشهد أزمة إنسانية غير مسبوقة، كما أن أي قصف إسرائيلي عليها يوقع أعداداً كبيرة من الضحايا في ظل أن كل متر في المدينة تقيم عليه عائلة غزية.
وتعاني مدينة رفح منذ سنوات بسبب عدم وجود مستشفى كبير يقدم الخدمات الطبية لسكانها الذين كانت أعدادهم تصل إلى قرابة 300 ألف نسمة، وشهدت السنوات الأخيرة مساعي لإنشاء مستشفى كبير، وتم وضع حجر الأساس له بعد أن تعهدت دولة قطر بتمويله في فبراير/شباط 2021. لكن نتيجة تكرار العدوان على القطاع، تأجل إنشاء المستشفى، إذ اندلع عدوان إسرائيلي في مايو/أيار 2021، ثم هجوم إسرائيلي في عام 2022.
ويعتبر مستشفى أبو يوسف النجار هو الأكبر في رفح، وهو أقرب إلى مركز صحي من كونه مستشفى، ويعمل على مدار الساعة، لكن مساحته محدودة، ما يجعل طاقته الاستيعابية صغيرة، بينما تحتاج هذه الأعداد الكبيرة من النازحين إلى أكثر من مستشفى كبير لخدمتهم.
وأعلنت وزارة الصحة مؤخراً إقامة نقاط علاجية كمراكز رعاية أولية للتخفيف عن المستشفيات القليلة العاملة في وسط وجنوب القطاع، والبالغ عددها 9 مستشفيات من أصل 35 مستشفى، لكن أعداداً كبيرة من النازحين باتوا يقيمون أمام تلك النقاط الطبية طلباً للأمان.
تفتقر مدينة رفح إلى وجود مستشفى كبير يقدم الخدمات الطبية لسكانها
وحذر المتحدث باسم وزارة الصحة في قطاع غزة أشرف القدرة من حصول كارثة صحية وإنسانية لا يمكن تحملها في مدينة رفح، بعد نزوح أكثر من نصف سكان قطاع غزة إليها، وأشار إلى الظروف القاسية التي تشمل انهيار الخدمات الصحية والبيئية، وعدم توفر المقومات المعيشية في ظل الأعداد المتزايدة.
ويقول القدرة لـ"العربي الجديد": "استطاعت وزارة الصحة من خلال بعض المساعدات الطبية إنشاء 35 نقطة طبية بما يتوفر من إمكانيات محدودة، للمتابعة الصحية للنازحين في مراكز الإيواء، وتسعى الوزارة إلى إقامة مزيد من النقاط الطبية في المنطقة الوسطى والجنوبية، وخصوصاً في رفح حيث تتزايد أعداد النازحين، ولا يزال مستوى الخدمات الطبية متدنياً بسبب قلة وصول المساعدات الطبية إلى القطاع".
كانت مدينة رفح تشتهر بمنطقة "السوافي"، وهي مساحة أرض رملية كبيرة كانت تقام عليها المعارض الوطنية، والأفراح التراثية، إلى جانب كونها متنفساً مهماً للسكان، لكنها تحولت إلى مخيم نزوح كبير يضم مئات الخيام، ولا تكاد تجد فيها متراً مربعاً فارغاً.
ويواجه النازحون إلى "السوافي" مشكلات كثيرة، فالمنطقة غير مناسبة للعيش، ولم يتم تأهيلها كمنطقة سكنية، وعندما تهطل الأمطار، تتسرب المياه إلى داخل الخيام بسبب التربة الرملية، كما تتحول الممرات إلى برك، ما يؤدي إلى مشكلة كبيرة في التنقل بينها، وهي تعتبر منطقة باردة في فصل الشتاء، خصوصاً في فترات المساء والصباح الباكر.
دمر قصف الاحتلال المنزل الذي نزح إليه موسى أبو ربيع (56 سنة) في حي السلام شرقي مدينة رفح في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، فانتقل مع أسرته للعيش في خيمة صغيرة بمنطقة السوافي، والتي كانت في السابق منطقته المفضلة لقضاء وقت الفراغ، قبل أن تصبح كابوسه، إذ لا يستطيع تأمين احتياجات عائلته اليومية، ولا يملك حتى فرصة لاستخدام حمام حقيقي.
يقول أبو ربيع لـ"العربي الجديد": "كانت رفح مدينة هادئة، واليوم تحولت إلى مدينة مكتظة تعاني من الضجيج والقلق، ومنطقة السوافي كانت مخصصة للأنشطة الترفيهية، ولا تمكن الإقامة فيها، لكن لا بدائل لدينا، فالناس تبحث عن أي مأوى، والمدارس مكتظة، ولم نجد مكاناً فيها، وقد تدبرت خيمة كبيرة من الخيام البدوية التي كانت تقام فيها الأعراس، ووضعت عليها نايلوناً حتى يمنع مياه الأمطار".
يضيف أبو ربيع: "الناس تستغل أي مساحة متاحة في رفح، حتى لو كانت محلاً تجارياً أو مخزناً، وحتى مقار الأندية الرياضية والمرافق العامة ورياض الأطفال، كلها باتت أماكن للإيواء. عشرات الآلاف الذين وصلوا إلى رفح منذ بداية العدوان يعيشون داخل منازل الأقارب والأصدقاء، وكنت أحد هؤلاء قبل أن يدمر القصف المنزل المكون من 4 طوابق الذي كان يؤوي عائلتي وعائلة شقيقي".
ورغم دخول شاحنات مساعدات يومية من معبر رفح الحدودي في جنوب المدينة، إلا أن الزحام اليومي على تلقي المساعدات وملاحقة الشاحنات يتزايد مع زيادة أعداد النازحين، وأصبح كثير من النازحين يؤمنون الطعام بتلك الطريقة العشوائية خشية نفاد المساعدات قبل أن يحصلوا على حصة منها، في ظل عدم توفر المواد الغذائية في الأسواق، أو غلاء أسعار المتوفر منها.
ينتظر الشقيقان إبراهيم (25 سنة) وعماد (28 سنة) شاحنات المساعدات يومياً أمام مركز التوزيع منذ نزحوا إلى رفح، في نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، ضمن الفوج الأخير من مدينة خانيونس، حيث كانوا يقيمون في إحدى المدارس التابعة لوكالة أونروا، والتي تعرضت للقصف، ما دفعهم للمغادرة إلى رفح.
يقول عماد لـ"العربي الجديد": "يتزايد نقص الطعام في رفح كل يوم، والمساعدات التي تصل غير كافية، ويؤدي الجوع إلى مشاكل بين النازحين. أتتبع أنا وشقيقي الشاحنات بعد وصولها، وفي بعض المرات، نتعلق بها طوال الطريق إلى مركز التوزيع، وبهذه الطريقة نتمكن من الحصول على الطعام، حتى لو كانت الكميات قليلة. إن لم نفعل ذلك فلن نتمكن من الحصول على طعام لقرابة 20 فرداً من عائلتنا. باتت رفح مدينة أشباح، والجميع فيها جائعون، ولو استمر هذا الوضع فسندخل في مجاعة حقيقية".