على الرصيف الواقع قبل العوائق الحديدية التي وضعتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بالقرب من حاجز قلنديا إلى شمال القدس المحتلة، جلس سائد المصري القادم من مدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية، وراح يقرأ القرآن من مصحف اصطحبه معه. وعلى بعد أمتار قليلة، في مكان أكثر علوّاً، وقف أحد عناصر قوات الاحتلال يراقب الفلسطينيين المتوجّهين إلى القدس المحتلة لأداء الصلاة في المسجد الأقصى في يوم الجمعة الأوّل من شهر رمضان الجاري.
كان سائد يعرف تماماً أنّه قد يُمنع من عبور هذا الحاجز، فالاحتلال كان حدّد مسبقاً الفئات التي يُسمح لها بالمرور، وهي النساء من كلّ الأعمار، والأطفال دون 12 عاماً، والرجال فوق 50 عاماً، أمّا هو فيبلغ 48 عاماً، لكنّه أصرّ على مرافقة شقيقه الذي تبقّت له ثمانية أشهر ليبلغ الخمسين من عمره. هما، الاثنان، لم يفقدا الأمل بإمكانية الوصول إلى المسجد الأقصى الذي يُحرم الفلسطينيون من الوصول إليه طوال العام للصلاة فيه، علماً أنّ شهر رمضان يمثّل فرصة لبعض الفلسطينيين لزيارته وفق إجراءات الاحتلال.
يُذكر أنّ الاحتلال أخّر الإعلان عن إجراءاته بادّعاء دراسة الأوضاع الأمنية بعد سلسلة عمليات فدائية نفّذها فلسطينيون، فبقي الأمر غامضاً حتى اليوم الرابع من رمضان. وإلى جانب الفئات التي سمح لها بالعبور والمذكورة آنفاً، يحتاج الرجال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 40 و50 عاماً إلى تصاريح خاصة لذلك.
ويقول المصري لـ"العربي الجديد": "حاولت العبور مرّات عدّة مع شقيقي من دون جدوى. لكنّني مصرّ على البقاء، لعلّي أتمكّن من ذلك في لحظة ما، وإلا فإنّني سوف أصلّي الجمعة في أقرب مسجد إلى الحاجز العسكري"، مؤكداً أنّ "الصلاة في المسجد الأقصى لها معان كبرى لي ولكلّ الفلسطينيين".
وحالة المصري تفضح إدّعاءات الاحتلال بشأن "التسهيلات" الخاصة بالصلاة في المسجد الأقصى. فالفلسطينيون يعدّون ما يأتي به الاحتلال "إجراءات تعسفية مقيّدة لوصولهم إلى المسجد الأقصى". هذا ما يراه بدوره معتصم جازي البالغ من العمر 35 عاماً، والذي حضر كذلك من إحدى قرى نابلس. ويخبر "العربي الجديد" عن "مشادّة وقعت بيني وبين أحد عناصر قوات الاحتلال بسبب التعامل بأسلوب لاأخلاقي معي"، مؤكداً "سوف أظلّ أحاول الدخول". يضيف جازي أنّ "ثمّة شعوراً لا يستطيع الإنسان التخلّي عنه. ولا يوجد فلسطيني واحد لا يرغب في الصلاة بالأقصى. هذه أرضنا وسوف نظلّ نحاول حتى آخر نفس".
لم يسلم كبار السنّ
لكنّ منع الفلسطينيين من الوصول إلى القدس لم يقتصر على الفئات المحدّدة مسبقاً من قبل الاحتلال. ويخبر سعيد شناوي القادم من جنين، شمالي الضفة الغربية، والبالغ من العمر 66 عاماً، أنّه حاول في أكثر من مرّة عبور نقاط التفتيش والفحص الإسرائيلية عند هذا الحاجز منذ صباح اليوم الجمعة، وفي كلّ مرّة كان الجواب أنّه "ممنوع بحجّة أمنية".
يقول شناوي لـ"العربي الجديد": "خرجت من سجون الاحتلال في عام 2007، أي أنّه مرّ على اعتقالي أكثر من عشر سنوات، ومن المفترض أنّ كلّ منع أمني أزيل عنّي. لكنّهم أخبروني بوجود منع حتى عام 2023 وهو قابل للتجديد كذلك". ويسأل: "أنا اليوم في الـ66، متى أتمكّن من الوصول إلى الأقصى؟ هل أذهب وأنا أتّكئ على عكّاز؟".
ويوجّه الشناوي رسالة إلى الدول العربية التي انخرطت في التطبيع مع الاحتلال وإلى العالم قائلاً: "رسالتي إلى مشايخ التطبيع فلينظروا إلى الشعب الفلسطيني، ولينظروا إلى هؤلاء الذين أتوا للصلاة، كلّ العالم يتباكى على اللاجئين الأوكرانيين، نحن لسنا ضدهم ولسنا ضد قضية اللجوء، قلوبنا تعتصر لأنّنا عشنا ذلك، لكن فلينظر العالم إلينا، نحن فقط نريد الصلاة في المسجد الأقصى".
بدوره، يقول سالم سويلم القادم من بلدة شقبا، الواقعة إلى الغرب من رام الله، لـ"العربي الجديد": "منعونا بحجّة وجوب مراجعة استخبارات الاحتلال. فإذا كان كلّ فلسطيني اعتُقل في السابق ملزماً بذلك، فهذا يشمل ثلثَي الفلسطينيين". ويسأل: "كيف يدّعون أنّ ثمّة تسهيلات، طالما لا يلتزمون بالسنّ المعلن من قبلهم؟ أنا أقترب من السبعين من عمري، ويريدونني أن أراجع الاستخبارات".
منع يطاول النساء
بحسب إجراءات الاحتلال، يُسمح للنساء جميعاً بعبور حاجز قلنديا في اتّجاه المسجد الأقصى، لكنّ الأمر لا يبدو كذلك. فعند المسلك الخاص بالنساء، صادف "العربي الجديد" الحكواتية الفلسطينية فداء عطايا التي أعادتها المجنّدة بعد فحص بطاقة هويتها. وتقول عطايا: "حلّ رمضان وقلت أتى الفرج، فسوف ندخل إلى القدس... سوف نذهب إلى بلدنا. ومثلي مثل كلّ النساء، توجّهت إلى المسلك الخاص، لكنّ المجنّدة طلبت منّي التراجع، قائلة: أنتِ ممنوعة! حينها شعرت بأنّ الدنيا أغلقت بوجهي".
تضيف عطايا: "أتقدّم دائماً بطلب للحصول على تصريح، فيما هم يرفضون تزويدي بواحد. لا أعرف السبب، ليست لي علاقة بالسياسة، فأنا أشتغل بالفنّ". وتتابع أنّ "القدس تسري فينا كلنا. ودخولي إلى القدس يعني دخولي إلى بلدي، لكنّني ألقى هنا الألوان السوداء التي تجعل كلّ من يعبر الحاجز في حالة درامية خلقها الاحتلال وليست لنا علاقة بها"، في إشارة إلى المكعّبات الإسمنتية في المكان.
"مطلوبون" من قبل الاستخبارات
وعند حاجز قلنديا نفسه، احتجزت قوات الاحتلال عشرات من الفلسطينيين الآخرين على الرغم من تخطّيهم سنّ الخمسين، وذلك لأكثر من ساعة، قبل أن تنقلهم في حافلة إلى بوابة معتقل عوفر الواقع إلى الغرب من رام الله ثمّ تخلي سبيلهم. المنسق الإعلامي للجنة الشعبية لمقاومة الجدار والاستيطان في قرية بلعين راتب أبو رحمة واحد من هؤلاء، ويشرح لـ"العربي الجديد" أنّ "قوات الاحتلال احتجزت العشرات بادّعاء أن الاستخبارات تطلبهم. لكن في النهاية، أُبعدوا وأُفرج عنهم".
ويرفض الفلسطينيون الادّعاءات الإسرائيلية بأنّ إجراءات مؤسسات الاحتلال "تسهيلات"، فهم بمعظمهم ممنوعون من الصلاة في الأقصى، علماً أنّ تلك الإجراءات لا تسري إلا أيام الجمعة في شهر رمضان، بالإضافة إلى ليلة القدر التي توافق السابع والعشرين من هذا الشهر.