في الشهر الأول من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تمكنت أعداد قليلة من ذوي الشهداء من فتح بيوت عزاء في مناطقهم، توافد عليها الأقارب والجيران والأصدقاء للمواساة، قبل أن يجبر العدوان سكان كافة المحافظات على النزوح عدة مرات داخل القطاع، خصوصاً من مناطق الشمال التي تعرضت لتدمير واسع، وشهدت شبه إبادة شاملة، فضلاً عن أكبر موجات النزوح إلى الوسط إلى الجنوب، وبالتالي بات الجميع غير قادرين على فتح بيوت العزاء.
وبينما لا يملك سكان قطاع غزة تلقي العزاء في شهدائهم، تفتح العائلات الغزية المغتربة بيوت العزاء خارج غزة، خصوصاً في مدن ومناطق الضفة الغربية، وفي مصر والأردن وبعض دول الخليج العربي، وفي عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، وغيرها من الدول التي تعرف وجوداً كبيراً للمغتربين الغزيين والفلسطينيين بشكل عام، سواء من هاجروا بطرقٍ شرعية أو غير شرعية، وبعض هؤلاء فقدوا أفراداً من عائلاتهم خلال العدوان الإسرائيلي، وفقد بعضهم عائلاتهم بالكامل، فقرروا إقامة بيوت العزاء في دول إقامتهم.
نزح جميع أفراد عائلة أبو سليمان المتبقين في القطاع من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة إلى الجنوب بعد استشهاد خمسة عشر فرداً من العائلة في قصف للاحتلال دمر منزلهم بالكامل في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفي ظل ظروف النزوح القسري، باتوا عاجزين عن استقبال المعزين، سوى من رافقوهم في رحلة النزوح إلى مراكز ومدارس الإيواء والخيام.
في حي مدينة نصر بالعاصمة المصرية القاهرة، فتح محمد أبو سليمان (59 سنة)، بيت عزاء في شقيقه وأبنائه وزوجته، وشقيقته الكبرى وأبنائها، والذين قضوا في مجزرة إسرائيلية في حي الشجاعية، حضر إليه عشرات الفلسطينيين، كما توافد عليه كثير من الجيران المصريين لمساندته ومواساته.
يقيم أبو سليمان في الحي القاهري منذ 7 أشهر، إذ حضر إلى مصر لإجراء عملية جراحية في العين، ثم منعه العدوان الإسرائيلي وإغلاق معبر رفح من العودة، ليقرر البقاء في المنطقة التي يوجد فيها عدد كبير من الفلسطينيين، ومن بينهم أعداد من الغزيين، إلى حين التمكن من العودة إلى القطاع بعد انتهاء العدوان، لكنه يشعر بحسرة كبيرة كونه لم يحضر دفن ذويه، ولم يتمكن من فتح بيت عزاء لهم في مدينة غزة.
تفتح عائلات غزة المغتربة بيوت عزاء بينما لا يملك سكان القطاع ذلك
يقول أبو سليمان لـ"العربي الجديد": "أجريت اتصالاً بالعائلة قبل أن يتم استهداف المنزل بساعة واحدة، وكانت أصوات القصف حاضرة في أنحاء الحي، وعندما كررت الاتصال لاحقاً ولم يجب أحد عرفت أنهم استشهدوا، وبعد ثلاثة أيام علمت بما حدث، عدد من نجوا من القصف عشرة أفراد فقط، وجميعهم كانوا مصابين، وابن شقيقي كانت إصابته خطرة، وانتظر شهرين حتى أمكن نقله إلى شمال سيناء لتلقي العلاج فيها مع دفعة من المصابين، وهو يعالج حالياً في مستشفى بمنطقة بئر العبد، وتشرد من بقي من العائلة في القطاع".
يضيف: "كنت حزيناً لأنهم لم يحصلوا على التكريم كشهداء، ثم اتصل بي أصدقاء من العائلة، وطلبوا مني فتح بيت عزاء في الشقة التي أقيم فيها بالإيجار، ففعلت ذلك، وحضر كثير من الأشخاص لمواساتي رغم أني لا أعرف معظمهم. كثير من الغزيين المقيمين في مصر فتحوا بيوت عزاء لعائلاتهم، ولا يوجد أحد من أهالي قطاع غزة لم يفقد في هذا العدوان فرداً أو أكثر من أقاربه أو جيرانه. هذا العدوان جعلنا نعيش ضغوطاً نفسية إضافية، وحرمنا من الوداع الأخير لذوينا، حتى إننا ربما لن نعرف مكان قبورهم لأنهم دفنوا بطريقة عشوائية".
وتقام بيوت العزاء خارج قطاع غزة منذ سنوات لأسباب متعددة، من بينها وجود شخصية اعتبارية من العائلة في الخارج، أو وجود أعداد كبيرة من العائلة في المهجر، ما يدعو إلى فتح بيت عزاء في غزة، وآخر في منطقة وجود العائلة خارجها، لكنها انتشرت خلال العدوان الإسرائيلي الحالي لأسباب إضافية، من بينها عدم القدرة على فتحها في القطاع بسبب العدوان، أو النزوح، وأحياناً استشهاد جميع أفراد العائلة. ومع وجود أقارب أو عائلات مرتبطة بقرابة مع عائلات قطاع غزة، تقوم مجالس العائلات بفتح بيوت العزاء باعتبارها واجبا مجتمعيا.
تقام بيوت العزاء خارج قطاع غزة منذ سنوات لكنها تزايدت مؤخراً
في العاصمة البلجيكية بروكسل، تلقى محمد النجار (33 سنة) نبأ استشهاد جميع أفراد عائلته في بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خانيونس، بينما كان ينتظر أن يحصل على موافقة للم شمل والدته، أملا في أن ينقذها من موت محقق في غزة، لكنها توفيت مع جميع أفراد أسرته المكونة من 8 أفراد.
يقول صديقه محمد أبو صباح لـ"العربي الجديد": "نعيش في الغربة، وقمنا بتنظيم بيوت عزاء لعدد من أبناء الجالية، فمعظمنا فقد شهداء، إما أقارب أو أصدقاء، وبات علينا مساندة بعضنا. حرم الغزيون من إقامة العزاء في القطاع، فالكل يحزن، ولا أحد يواسي أحداً لأن الكل في غزة مشاريع شهداء، والناس بين نازحين ومشردين ومصابين، وكثيرون فقدوا منازلهم. هذه أصعب المواقف التي يمكن تخيلها، فالاحتلال يلاحق الغزيين في كل مكان، حتى في القبور، ويمنع الأحياء من تلقي العزاء".
وفي مخيم الزرقاء للاجئين شرقي العاصمة الأردنية عمان، أقامت عائلة الطويل بيت عزاء لشهداء العائلة في قطاع غزة، وكان يتلقى العزاء فيه محمد الطويل (50 سنة)، والذي استشهدت ابنته سارة (18 سنة) وابنه يحيى (16 سنة) في قصف استهدف منزلهم في مخيم البريج بوسط القطاع في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، واستشهد في المجزرة 12 فرداً من العائلة، كان من بينهم ابنه وابنته، ونجا اثنان من أبنائه بإصابات متوسطة.
يوجد الطويل في مخيم الزرقاء مع زوجته لتلقي العلاج في أحد مستشفيات العاصمة الأردنية، ولم يتخيل يوماً أن يكون عاجزاً عن العودة إلى القطاع لوداع شهداء من عائلته، إذ نصحه الأطباء بعدم السفر إلا بعد انتهاء العلاج، فقد أجرى عملية جراحية في الغدة الدرقية، كما خضعت زوجته لعملية غضروف في فقرات الظهر السفلية.
يقول لـ"العربي الجديد": "وداع الشهداء من خارج غزة كان قاسياً، رغم أن كثيرين حضروا إلى بيت العزاء لمواساتنا، وبعضهم من سكان المخيم الذين لا تربطنا بهم صلة غير كوننا جميعاً فلسطينيين. أنتظر روية قبور شهدائي، فقد كانوا يتحدثون معي قبل قصف المنزل، وأقنعوني بالبقاء في الأردن، وألا أعود إلى غزة لأن كل شيء أصبح مدمراً، وأنني لن أحصل على العلاج لو عدت، ويمكن أن تتزايد أعراض مرضي، لكنهم استشهدوا قبل أن أراهم، وقلبي لا يزال ينزف على فقدهم".
يضيف الطويل: "فتحنا بيت العزاء بضغط من الأقارب كونه من بين عاداتنا وتقاليدنا كشعب فلسطيني، وحظيت بمساندة كبيرة، لكن لا يوجد ما يريح قلبي، فأبنائي دفنوا في مقبرة جماعية، ولم يحصلوا على تشييع مناسب، وعندما أعود إلى غزة سأبحث عن قبورهم لأقرأ سورة الفاتحة أمامها. الاحتلال حرمنا من تشييع الشهداء، وحرمنا كذلك من تكريمهم بدفنهم في قبور معروفة، كما قام بتدمير كثير من مقابر قطاع غزة".
استشهد الفلسطيني محمد ياغي في مجزرة إسرائيلية دمرت منزل العائلة في غزة، في 22 فبراير/شباط الماضي، وراح ضحيتها 40 فرداً، ثم استشهدت ابنته فرح ياغي (9 سنوات) في الأول من مارس/آذار الحالي، بعد تأخر محاولات إنقاذها عبر نقلها للعلاج في خارج القطاع.
وأقام سميح ياغي (71 سنة) بيت عزاء لنجله الشهيد وحفيدته الشهيدة في منزله بمدينة غوتنبرغ السويدية، حضره عشرات الفلسطينيين من أبناء الجالية. لم يتوقع المسن الفلسطيني أن يقيم بيت عزاء لابنه وحفيدته في غربته، إذ كان يجري محاولات حثيثة لإخراج جميع أبنائه من قطاع غزة، لكن الكثير من العراقيل كانت تواجهه، مثل الكثير من المغتربين الذين يعانون من عدم القدرة على دفع أموال التنسيقات الأمنية الباهظة، أو انتظار الإجراءات البيروقراطية في الدول الأوروبية من أجل لم شمل عائلاتهم.
يقول ياغي لـ"العربي الجديد": "احتسبت ابني عند الله شهيداً، وكنت أتمسك بأمل نجاة حفيدتي، وأن تأتي لتعيش معي كي أقدم لها الرعاية، لكني فجعت بالموت مرتين، وكان لا بد أن أفتح بيت العزاء لأن الجميع في غزة لا يستطيعون فعل ذلك، وهم يعانون من عجز كبير".