الزيادة المتوقعة في تكاليف العودة إلى المدرسة في تونس تعزّز المخاوف من توسّع التسرّب المدرسي وإنهاء ما تبقّى من مجانية التعليم في البلاد. وتكثر نفقات العودة إلى المدرسة، الأمر الذي يرهق العائلات التونسية، على الرغم من مجانية التعليم في القطاع الحكومي، فيما يقول عاملون في القطاع التربوي أنّ مجانية التعليم صارت نسبية، إذ إنّ ثمّة رسوماً لقاء التسجيل والتأمين في المدارس الرسمية، كذلك تفوق كلفة اقتناء المستلزمات الدراسية 200 دينار تونسي (نحو 65 دولاراً أميركياً) للتلميذ الواحد. ووسط الغلاء، يرجّح العاملون في القطاع التربوي أن يتواصل التسرّب المدرسي الناجم عن أسباب مختلفة، لعلّ أبرزها الفقر.
يقول المدرّس علي بلخير، الذي عمل أكثر من 20 عاماً في هذا المجال قبل أن يضطلع بمسؤوليات إدارية وبيداغوجية (تربوية) في القطاع الحكومي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "مجانية التعليم التي تأسّست عليها المدرسة التونسية قبل 60 عاماً بصدد التراجع بشكل كبير مع تحوّل جزء من خدمات التعليم نحو القطاع الخاص". يضيف بلخير أنّ "التعليم الرسمي ليس مجانياً بالمعنى الشامل للكلمة، إذ تتحمل العائلات التونسية بدلات الرسوم والتأمين والميدعات (الزيّ المدرسي) إلى جانب المستلزمات الدراسية التي ترتفع أسعارها سنوياً".
ويوضح بلخير أنّ "مجانية التعليم توقّفت تقريباً قبل عقدَين من الزمن بسبب تغيير المناهج التي صارت تحتاج إلى عدد كبير متنوّع من الكتب والكراريس"، مؤكداً أنّ "خدمة التعليم العام في تراجع كبير كما هي حال الخدمات الحكومية بمعظمها، ومنها الصحة والنقل، الأمر الذي تسبّب في فوارق كبيرة بين المتعلّمين من طبقات اجتماعية مختلفة". ويلفت بلخير إلى أنّه "في السابق، كانت المدارس الحكومية تجمع كلّ أبناء التونسيين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، وكان الجميع يدرس مجاناً"، مشدّداً على أنّ "المدرسة الحكومية ساهمت في ارتقاء الفقراء اجتماعياً".
وكانت تونس قد أقرّت إلزامية التعليم ومجانيته بمقتضى قانون صدر في عام 1958. وجاء حينها في نصّ القانون أنّ "أبواب التربية والتعليم مفتوحة في وجه جميع الأطفال ابتداءً من سنّ السادسة"، كذلك أُقرّت مجانية التعليم في كلّ درجاته ضماناً لتكافؤ الفرص. وقد صاحب هذا الإقرار التشريعي استثمار كبير في البنية التحتية التربوية عبر تعميم المدارس في المدن والأرياف.
واليوم تنفي وزارة التربية نيّة زيادة تكاليف التعليم الدرسي، مؤكدة المحافظة على أسعار الكتب نفسها. وصرّح مسؤول في وزارة التربية، يوم الثلاثاء الماضي، في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء (رسمية)، بأنّ سعر الكتاب المدرسي للعام الدراسي 2022 - 2023 لن يتغيّر مقارنة بالعام الذي سبق. وشدّد المسؤول ذاته على أنّه "لن تقع أيّ زيادة بأيّ مليم" في أسعار الكتاب المدرسي خلافاً لما يُشاع على منصات التواصل الاجتماعي، موضحاً أنّ ثمّة "خلطاً ما بين الكتاب المدرسي الراجع بالنظر إلى المركز الوطني البيداغوجي والكرّاس المدرسي الراجع بالنظر إلى وزارة التجارة".
وبحسب ما تشير دراسات أعدّتها منظمات مدنية، فإنّ الغلاء والنقص في موارد الأسر تسبّبا في زيادة الأمية والانقطاع عن التعليم في البلاد، علماً أنّ الحكومة التونسية تمنح مساعدات مالية لأبناء العائلات المنتفعة من الإعانة القارة (الثابتة) والعلاج المجاني ومحدودي الدخل، لا تتجاوز 50 ديناراً (نحو 16 دولاراً) في إطار برنامج الأمان الاجتماعي الذي يهدف إلى مكافحة فقر الأطفال.
في سياق متصل، يقول رئيس غرفة أصحاب المكتبات فيصل العباسي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المواد المدرسية المدعومة من قبل الحكومة (الكتاب المدرسي وأصناف من الكراريس) تحافظ على أسعارها ولم تسجّل أيّ زيادة". لكنّه يشير إلى أنّ "مستلزمات أخرى لا تخضع للدعم الحكومي تبدّل سعرها بفعل التضخّم والغلاء في المواد الأولية"، مضيفاً أنّ "أصحاب المكتبات يعملون على تخفيض هوامش الربح بنسب تتراوح ما بين 10 و15 في المائة، ويقدّمون حسومات للزبائن من أجل مساعدتهم في مجابهة مصاريف العودة إلى المدرسة".
ويثير تراجع دخل العائلة في تونس وارتفاع نسب الفقر، خصوصاً بعد أزمة كورونا الوبائية، مخاوف المعنيين في القطاع التربوي من ارتفاع في التسرّب المدرسي، في ظلّ عدم قدرة الحكومة على تلبية احتياجات العائلات وتأمين المساعدات الاجتماعية لنحو مليون منها. ويُعَدّ الفقر أحد الأسباب الرئيسية للتسرّب المدرسي الذي يُقدَّر سنوياً بنحو 100 ألف تلميذ لا يملكون أيّ مؤهلات تسمح لهم بالانخراط في سوق العمل.
وفي العام الماضي، نشر منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية دراسة حول واقع التعليم في تونس، بيّنت أنّ المنظومة التعليمية في البلاد دخلت في أزمة هيكلية تسبّبت في موجة تسرّب واسعة للتلاميذ في الأعوام العشرة الأخيرة. وكشفت الدراسة أنّ نسبة التمدرس تنخفض مع تقدّم التلاميذ في العمر، إذ تُسجَّل فوارق ما بين نسبة المتمدرسين الذين بلغوا سنّ السادسة وبين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 12 و18 عاماً، إذ تنخفض النسبة من 99.5 في المائة للفئة الأولى إلى 81.9 في المائة للفئة الثانية. وبحسب هذه الدراسة، فإنّ هذه النسبة تعكس صعوبة تطبيق مبدأ إلزامية التعليم على الرغم من أنّ القانون نصّ على ذلك منذ الإصلاح التربوي في عام 1991.
وتؤكّد كلّ المؤشرات الاختلاف الكبير في النسب بين الجهات، إذ ترتفع نسبة التمدرس في الشريحة العمرية 6 - 16 عاماً بالمحافظات الساحلية في مقابل تراجعها في المحافظات الداخلية. ويُفسَّر ذلك بارتفاع نسبة التسرّب المدرسي في المحافظات غير الساحلية بسبب الفقر والهشاشة وعدم القدرة على مواكبة متطلبات العملية التربوية مادياً.