أنشأ جيش الاحتلال الإسرائيلي طريقاً في وسط قطاع غزة بهدف فصل مناطق الشمال عن الجنوب، وهو يمتد من حدود قطاع غزة الشرقية حتى شاطئ البحر غرباً، والذي يسعى الاحتلال من خلاله إلى قطع أوصال قطاع غزة، والسيطرة على الممر الذي يفصل المناطق الشرقية عن وادي غزة.
ودمر جيش الاحتلال عدداً من منازل المواطنين، وأحرق العديد من المزارع في قرية جحر الديك، وأخرى بالقرب من قرية المغراقة على طول الشارع في المنطقة الغربية لوسط القطاع من أجل إنشاء الطريق الذي أطلق عليه اسم الطريق "749"، ما يزيد من مخاوف الغزيين حول فصل الشمال عن الجنوب، وقطع التواصل الإغاثي والإنساني والاجتماعي بين المنطقتين.
وأكد العديد من الغزيين الذين نزحوا خلال الفترة الأخيرة عبر الشارع، وتعرضوا للتفتيش الدقيق على حواجزه، أن الاحتلال الإسرائيلي قام بإحراق المنطقة وتدمير كل ما فيها، كما أنشأ سواتر رملية محاذية للشارع من الاتجاهين الشمالي والجنوبي، ما يعني أنه يحاول إغلاق المنطقة من الاتجاهين.
ويعد الطريق من أوائل الطرق التي تمركز فيها جيش الاحتلال، ونصب فيه حاجزاً يعتبره الغزيون مصيدة يمارس فيها التعذيب ومحاولات الابتزاز، كما تم اعتقال عدد من المدنيين والطواقم الطبية فيه، من بينهم طواقم مجمع الشفاء الطبي، والذين لا يزال بعضهم محتجزاً في السجون الإسرائيلية.
نزح معظم سكان المنطقة التي سيطر عليها الاحتلال، وأنشأ فيها الشارع إلى مخيمي النصيرات والبريج، وهما الأقرب من المنطقة، ومنهم نزح إلى مدينة خانيونس، ثم إلى مدينة رفح بعدما طاولت المجازر الإسرائيلية مخيمي النصيرات والبريج.
نصب الاحتلال على الطريق العسكري حاجزاً يعتبره الغزيون مصيدة للاعتقال
من بين النازحين أحمد أبو حجير (60 سنة) الذي غادر قرية جحر الديك إلى مخيم النصيرات بعدما كاد يفقد حياته بسبب القصف، وحين سمع بعد ثلاثة أسابيع بانسحاب آليات الاحتلال العسكرية، عاد إلى منزله ليكتشف أن جيش الاحتلال أحرق المنزل والمزرعة، وغيّر ملامح المنطقة كلها.
يقول أبو حجير لـ"العربي الجديد": "أنا مزارع، وفي الأصل لاجئ من مدينة بئر السبع المحتلة عام 1948، حيث كان أجدادي يعيشون في منطقة ريفية، ويعملون كمزارعين، وقد ورثت المهنة مع أشقائي، وغالبيتنا نعيش في وسط قطاع غزة، ومع بدء العدوان، نزحنا إلى وسط القطاع حتى نظل قرب أراضينا ومنازلنا، لكن الاحتلال أحرق كل ما نملكه، ودمر مصادر رزقنا".
يضيف: "عندما عدت إلى المنطقة، لم أشاهد في مساحة تقترب من الكيلومتر أي منزل أو مزرعة، وفقدت منزلي ومزرعتي التي كنت أنتج منها الخضروات، ومزرعة الدواجن. مسح الاحتلال المنطقة الشرقية لوادي غزة بالكامل، وكدت أستشهد، إذ كان الاحتلال يطلق النار باتجاهنا، فهو يعتبر أن منطقتنا خاضعة للاحتلال، وفي كل عدوان يقصف مزارعنا".
كان أبو حجير أحد مزارعي المنطقة الذين تعرضوا لإطلاق النار المتكرر أثناء العمل في أراضيهم على مدار السنوات الأخيرة، كما كان الاحتلال يتعمد رش المنطقة بالمبيدات عبر طائرات مسيّرة، وافتعال حرائق في الزراعات بحجة تسهيل عملية الرقابة الأمنية للحدود، ورصدت مؤسسات حقوقية عديدة ذلك، وأصدرت إدانات متكررة لانتهاك حقوق المزارعين في المناطق الحدودية.
ودمرت قذائف الدبابات التي توغلت من الجهة الشرقية للشارع منزل عائلة عبد الرؤوف الحسنات (55 سنة) المكون من أربعة طوابق، والذي كان من أوائل المنازل التي حوّلها الاحتلال الإسرائيلي إلى ثكنة عسكرية، ونزحت أسرة الحسنات إلى منزل أقاربهم القريب من المنطقة، وكان يستطيع من هناك رؤية منزله بينما يتجول داخله الجنود الإسرائيليون، لكن الاحتلال قصف المنزل بالدبابات قبل أن يغادر المنطقة، وأحرق المزرعة المجاورة له.
كان الحسنات أحد المتضررين خلال العدوان الإسرائيلي عام 2014، وتعرض حينها لخسائر فادحة، إذ خسر مزرعته بالكامل، وكذلك مزرعة أغنام ودواجن كان يملكها، واحتاج إلى سنوات عدة لإعادة إحياء مصادر رزقه، إذ انتهى من بناء المنزل قبل أربع سنوات ليجمع أبناءه في طوابقه، لكن الاحتلال استخدم المنزل لأغراض عسكرية خلال اجتياحه للمنطقة، كما أظهرت مقاطع فيديو نشرتها منصات عبرية، ثم دمره بالكامل عند انسحابه.
يقول عبد الرؤوف الحسنات لـ"العربي الجديد": "هذا الشارع كان من بين أحلام الاحتلال، وضمن خططه لفصل مناطق قطاع غزة، وفي العدوان الأول على القطاع في العام 2008، ارتكب الاحتلال مجازر في المنطقة وكذلك في عدوان عام 2014، لكن في هذا العدوان أراد أن يدمرها بالكامل بهدف إقامة الشارع، لكن طالما أنا حي فلن تنكسر إرادتي، والمال معوض، وسأعمل مع أبنائي من جديد على إحياء المزرعة وإعادة بناء المنزل".
في المناطق المجاورة، دمر الاحتلال عمارات سكنية حديثة البناء، والكثير منه حصلت على تصاريح بناء في ظل عدم وجود مساحات متاحة للبناء في مدينة غزة، خصوصاً أن إدارة شؤون غزة أوصت بأن تضم المنطقة نقطة تجمع لمبان إدارية حكومية ومدارس بهدف تخفيف الزحام القائم في وسط مدينة غزة، لكن الاحتلال دمر تلك المباني.
نزح فايز الصالحي (37 سنة)، من هذه المنطقة إلى مدينة رفح، وقد شاهد أنقاض منزله المدمر عبر تقرير عرضته قناة عبرية، لكنه كان يعلم مسبقاً أن الاحتلال قام بتدمير المنزل بناءً على ما أخبره به أحد أصدقائه المقيمين في قرية المغراقة، والذي التقط أثناء نزوحه صوراً للمنازل المدمرة، لكن الصالحي شعر بحزن كبير بعدما عرف بسيطرة الاحتلال على المنطقة لإقامة شارع فيها.
يقول الصالحي لـ"العربي الجديد": "يبدو أن خطة الاحتلال التي تشمل إقامة الشارع هي تقسيم قطاع غزة إلى نصفين بشكل دائم، فالشارع أقيم في منطقة حيوية وحساسة، ونشعر بالخوف من أن يصبح هذا الشارع أمراً واقعاً مفروضاً علينا بعد انتهاء العدوان، أو أن يصبح المرور منه عبر الحواجز الإسرائيلية أحد تفاصيل حياتنا خلال السنوات المقبلة. ما نعيشه من قلق في الوقت الحالي مرده إلى خشيتنا من أن يعود قطاع غزة إلى أوضاع ما قبل عام 2005، ويكون هناك وجود لمستوطنات تضم مئات المستوطنين المتطرفين".
ويشدد الصالحي على أن "الاحتلال الإسرائيلي يريد أن يدمر أوصال قطاع غزة، ويدفعنا للعيش في واقع مظلم، فبينما كانت المنطقة تشهد تطوراً كبيراً خلال السنوات الأخيرة، قام جيش الاحتلال بتدميرها بالكامل من أجل بناء الشارع العسكري، وهو يستخدم صور منازلنا المدمرة باعتبارها نوعاً من النصر، وبمجرد إقامة الشارع سيشيع أنه قام بتحقيق إنجاز كبير، لكن كل ما فعله هو قتل أحلام أطفالنا، وتدمير مشاريعنا ومنازلنا، ولا أعلم كم من السنوات نحتاج حتى نعيد البناء من جديد".
كشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، في بيان، أن الطريق العسكري الذي يقيمه الاحتلال ليس معبداً بالأسفلت، وإنما بـ "البسكورس"، وهي طبقة توضع تحت الطبقة السطحية للطرق، وتتكون من مواد حصوية ذات مواصفات أدنى من مواد الطبقة السطحية، وغير معالجة في الغالب، ما يعني أنه طريق مؤقت، ويشبه الطريق الذي صممه الاحتلال أثناء عدوان عام 2008، وكان يمتد من منطقة "كارني" إلى حي الزيتون شرقي مدينة غزة.
وأضاف البيان، أن الاحتلال يستخدم التهويل الإعلامي في الحديث عن إنجاز الطريق ضمن الحرب النفسية التي يريد من خلالها إضعاف معنويات الغزيين، علماً أنه تم رصد شاحنات تحمل الرمل والحصى متوجهة إلى المنطقة منذ اليوم الـ44 من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
ويواصل الإعلام الإسرائيلي الترويج لتقسيم قطاع غزة من خلال تسليط الضوء على الطريق "749"، وعرضت القناة العبرية الرابعة عشرة، السبت الماضي، تقريراً كان يتجول فيه مراسلها العسكري في المنطقة، ويظهر أعمال إقامة الشارع، وأنه كان مخططاً له منذ بداية العملية البرية لتسهيل حركة القوات بعيداً عن الطرق القائمة التي يخشى الجيش أن تكون مفخخة. وأضاف التقرير: "على طول الطريق، يميناً ويساراً، لا يوجد منزل واحد قائم. ليس هناك شكّ في أن الجيش يستعد لبقاء طويل".
وأورد التقرير العبري أن الكتيبة الاحتياطية 601 التابعة لفيلق الهندسة في جيش الاحتلال، تعمل على تنفيذ الطريق منذ أسابيع، وأنها تستخدم عشرات الجرّارات والشاحنات والمعدات التابعة لسلاح المهندسين، ونقل عن قائد الكتيبة، المقدم شمعون أوركابي، قوله: "نعمل في منطقة ممر نتساريم التي تخلق حاجزاً بين شمالي قطاع غزة والمناطق الوسطى والجنوبية. هذا الطريق هدفه حماية المنطقة، ومداهمة المناطق التي يوجد فيها العدو، ومنع المرور إلى الشمال".
وعقب انهيار الهدنة الإنسانية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، نشر جيش الاحتلال خرائط تظهر تقسيم قطاع غزة إلى مربعات أمنية. وأفادت صحيفة "معاريف"، في وقت سابق، بأن جيش الاحتلال يمنع العودة إلى شمالي القطاع، وأن الفرقة 99، المسؤولة عن تقسيم قطاع غزة إلى شطرين، تقوم بمنع الفلسطينيين في الجنوب من التوجه إلى الشمال.
ونشرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" في الأيام الأولى للاجتياح البري، تقريراً بعنوان "التطويق والتقسيم في غزة"، قالت فيه إن "التطويق وربما التقسيم، هما المصطلحان اللذان يلخصان هذه المرحلة من القتال. يبدو أن التطويق يتحول إلى خط فاصل على طول مدينة غزة، وهناك خط يفصل شمالي القطاع عن وسطه". كما طرحت الصحيفة مخططات لتقطيع غزة في جولات العدوان السابقة، لكنها لم تنفّذ، مضيفة: "لقد تم ذلك هذه المرة".
وفي بداية الشهر الحالي، أورد موقع "والّا" العبري أن الجيش الإسرائيلي "بدأ التخطيط لإنشاء معابر في وسط قطاع غزة، من شأنها عزل المنطقة"، لكنه نقل تحذيراً من أن هذه المعابر التي تهدف إلى تقسيم القطاع "يمكن أن تشكّل خطراً على الجنود".