استمع إلى الملخص
- بدر دحلان، نموذج للناجين من الاعتقال، يعاني من أعراض واضحة لاضطراب ما بعد الصدمة، مما يعكس الآثار النفسية والجسدية الطويلة الأمد للتعذيب.
- الحاجة الملحة للدعم النفسي والطبي في غزة تبرز من خلال قصص المعتقلين المفرج عنهم، حيث يصعب الوصول إلى العلاج اللازم بسبب الحصار والقصف، مما يعيق التعافي النفسي والجسدي للناجين.
يُعَدّ اضطراب ما بعد الصدمة من الأضرار النفسية التي لا مفرّ من الإصابة بها بعد تعرّض المعتقلين عموماً لانتهاكات شبيهة بتلك التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين الذين يعتقلهم في قطاع غزة، ولا سيّما في إطار حربه المتواصلة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
منذ بداية الحرب المدمّرة التي تشنّها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة والمتواصلة أكثر من ثمانية أشهر، يعاني الفلسطينيون في القطاع المحاصر بمعظمهم من اضطراب ما بعد الصدمة أو اضطراب الكرب التالي للرضح. كلّ ما يعيشه هؤلاء، صغاراً كانوا أم كباراً، منذ الدقائق الأولى لعدوان الاحتلال الأخير، كفيل بالتسبّب في هذا الاضطراب النفسي، وفقاً للمقاييس التي يحدّدها المتخصّصون في هذا المجال. وفي حين تختلف أعراض هذا الاضطراب ما بين فلسطيني وآخر، كلّ بحسب ما عاشه تحديداً من أحداث مرعبة وبحسب شخصيته وقدرته على المقاومة، فإنّ الأشخاص الذين اعتقلهم الاحتلال وعذّبهم بمختلف الوسائل يُعَدّون، إلى جانب الأطفال، من بين أكثر المتضرّرين في هذا السياق.
قبل أيام، انتشر تسجيل فيديو يظهر فيه الفلسطيني بدر دحلان، من مدينة خانيونس الواقعة جنوبي قطاع غزة، مع عينَين مفتوحتَين على اتّساعهما كأنّهما تحدّقان بمن حوله وكذلك بالمجهول، بعدما أطلق الاحتلال سراحه. ولعلّ عيناه ببروزهما غير الطبيعي أكّدتا إصابته باضطراب ما بعد الصدمة، علماً أنّ أطفالاً كثيرين ظهروا بعيون مشابهة خلال هذه الحرب بحسب ما وثّقت صور وتسجيلات فيديو عديدة. كذلك، أتت حركات جسده ونطقه لتؤكّد الأمر نفسه، عندما راح يجيب عن أسئلة أحد الصحافيين بشأن حاله وهو يتلعثم، وأوضح أنّه تعرّض لتعذيب شديد بمختلف الوسائل مشيراً إلى ساقَيه.
وبدر دحلان واحد من بين آلاف الفلسطينيين من قطاع غزة الذين أفرج عنهم الاحتلال بعدما اعتقلهم وحقّق معهم وعذّبهم في سجونه، منتهكاً حقوقهم وإنسانيّتهم. وهو واحد من بين كثيرين أُطلق سراحهم وظهرت عليهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، فيما أُصيب آخرون بإعاقات جسدية من قبيل الصمم أو ضعف النظر أو تضرُّر أحد الأطراف أو غير ذلك.
وكان الاحتلال الإسرائيلي قد أفرج، يوم الخميس الماضي، عن 33 أسيراً فلسطينياً من قطاع غزة، اعتقلتهم قواته في أثناء العمليات العسكرية البرية التي شنّتها في أكثر من ناحية بالقطاع المحاصر والمستهدف، في حين أنّ من بينهم أشخاصاً كانوا يحاولون العودة إلى منازلهم في شمال قطاع غزة، لا سيّما مدينة غزة. وقد أُفرج عن هؤلاء من خلال معبر القرارة الواقع بين حدود مدينة دير البلح (وسط) ومدينة خانيونس (جنوب)، كان بدر دحلان واحداً منهم.
في تسجيل الفيديو الذي انتشر، يبدو بدر دحلان متردّداً وهو يخبر عن سنّه، ما بين 30 و29 عاماً. وبالتردّد نفسه يجيب عن الأسئلة التي تُطرَح عليه، وهو في ما يشبه حالة تشوّش ذهني. وفي محاولة للتعرّف أكثر إلى حالة بدر دحلان، حاولت "العربي الجديد" التواصل مع أسرته التي هُجّر أفرادها بعد تدمير منازلهم في مدينة خانيونس. يقول محمد دحلان، ابن عمّ بدر، إنّه كان يعاني من اضطراب نفسي قبل اعتقاله لكنّ حالته كانت مستقرّة، لكنّ الاحتلال لم يستجب لمطالبه وحرمه من العلاج وضربه بشدّة، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم حالته. يضيف أنّه الآن غير قادر على التركيز ولا على التذكّر، ويتلعثم في كلّ كلامه.
وبدر دحلان، الذي يسكن اليوم مع زوجته وطفلتهما سندس البالغة من العمر أربعة أعوام في مخيم نزوح، شُخّص لديه اضطراب ما بعد الصدمة نتيجة التعذيب والظروف القاسية التي تعرّض لها في أثناء الاعتقال. كذلك، تبدو آثار التعذيب واضحةً في أسفل قدمَيه وأسفل رأسه من الخلف، في حين تقرّحت جروح يدَيه بسبب ربطها بقوّة لأيام عدّة.
ويخبر محمد دحلان "العربي الجديد": "كان ابن عمي يعيش حالة مستقرة مع تلقّيه علاجاً للاضطراب النفسي المصاب به في الأساس. وكان يخرج إلى عمله ويلعب مع طفلته. لكن بعد الإفراج عنه، تبيّن أنّه فقد جزءاً من ذاكرته، ولم يتمكّن من التعرّف إلى بعض الناس". يتابع ابن العمّ أنّ "بدر عُرض على أطباء في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، فهو حُوّل إليه بعد الإفرج عنه. وهو اليوم ما زال على حاله، ولم ينفع أيّ علاج في مساعدته على النوم والاسترخاء وعدم التفكير والكلام. وقد أعلمنا الطبيب أنّ بدر في حاجة إلى علاج نفسي مكثّف، إنّما في خارج قطاع غزة. لكنّ المعابر مغلقة وبالتالي لا أمل بذلك".
بدوره، أُصيب الفلسطيني عمر الدالي البالغ من العمر 40 عاماً باضطراب ما بعد الصدمة بعد اعتقاله والإفراج عنه، وهو غير قادر على النطق جيّداً حتى اللحظة. كذلك هو يتّكل على ابنه الأصغر مجد البالغ من العمر 19 عاماً، ليرافقه كيفما تحرّك، إلى البحر كما إلى الحمّام، علماً أنّ لديه أربعة أبناء. كذلك يساعده مجد في التعرّف إلى أشخاص لم يعد يتذكّرهم. ويحسب ما أفاد أطباء، فقد أُصيب عكر الدالي بارتجاج دماغي نتيجة ضربه على رأسه. في هذا الإطار، يخبر شقيق عمر الدالي "العربي الجديد" أنّ "قبل اعتقاله، كان شقيقي شخصاً قيادياً ويتحمّل المسؤولية ويقودنا في نزوحنا". وفي مارس/ آذار الماضي، اعتقلته قوات الاحتلال في مدينة خانيونس وأُفرج عنه قبل شهر ونصف شهر. ويؤكد شقيق عمر الدالي أنّه "اليوم في حالة صدمة نفسية. صحيح أنّه تحسّن قليلاً مع العلاج، غير أنّ الأدوية المطلوبة لم تعد متوفّرة أخيراً بحسب ما أخبره أحد الأطباء في إحدى النقاط الطبية بمنطقة المواصي".
من جهة أخرى، خرج الفلسطيني صقر النجّار البالغ من العمر 35 عاماً من المعتقل وقد فقد قدرته على النطق، وهو اليوم يشعر بالعجز إذ لا يستطيع التواصل مع أسرته في أحد مخيّمات النزوح غربي مدينة دير البلح. يقول والده عزت النجّار لـ"العربي الجديد" إنّه يحاول الابتعاد قدر الإمكان عن الناس والتجمّعات، وفي المساء ينزوي ثمّ يبكي بشدّة. ويخبر الوالد أنّ "آثار الضرب كانت ظاهرة على رأس صقر وعلى ظهره عندما أُفرج عنه، وكان جسده يرتعش بشدّة". يضيف: "لكنّه في حاجة إلى علاج في مراكز متخصّصة خارج قطاع غزة"، خصوصاً أنّ فقدانه القدرة على النطق من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة الذي أُصيب به بسبب اعتقاله. ولا يخفي الوالد أنّه يتعرّض بدوره إلى ضغط نفسي من جرّاء حاله ابنه، ويقول: "عندما أفكّر في العلاج في الخارج، أتذكّر أنّني رجل فقير وابني عاطل من العمل، ونحن في حاجة إلى المال لإنقاذ حياته"، مشيراً إلى أنّه "أب لطفلَين". ويتابع: "بالإضافة إلى كلّ ذلك، لا معابر مفتوحة".
في سياق متصل، يقول المتخصّص النفسي محمد موسى إنّه يحاول مع عدد من المنظمات الدولية العمل من أجل توفير الأدوية اللازمة لعلاج الاضطرابات النفسية عموماً، في إطار المساعدات المخصّصة لقطاع غزة. ويشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "معبر رفح البري كان يساهم في إدخال عشرات الأنواع من الأدوية مصرية الصنع، لتزويد قطاع الصحة النفسية بها. لكنّنا لم نحصل على أيّ دواء منذ نحو شهرَين، ولا سيّما مع تدمير معبر رفح واحتلاله". وموسى من بين المتخصّصين الذين تابعوا عدداً من الفلسطينيين المفرج عنهم، على خلفية إصابتهم باضطراب ما بعد الصدمة.
ويوضح موسى أنّ الأشخاص المفرج عنهم الذين تتراوح أعمارهم ما بين 14 عاماً و60 عاماً يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. ويؤكد المتخصّص النفسي أنّ جميع الفلسطينيين الذين اعتقلهم الاحتلال في قطاع غزة تعرّضوا لمختلف أنواع التعذيب، ويبيّن أنّ ممّا تعرّض له هؤلاء "حرق الأطراف أو إصابتها نتيجة ربط اليدَين والقدمَين. كذلك صُبّت المياه الباردة جداً على عدد منهم أثناء المنخفضات الجوية الباردة، فيما صُبّت المياه الساخنة جداً خلال ارتفاع درجات الحرارة".
ويشدّد موسى على أنّ "لآثار التعذيب كلّها انعكاسات شديدة على صحة هؤلاء الذين أُخلي سبيلهم، جسدياً ونفسياً. وهذا أمر يتطلّب بيئة علاجية، في حين أنّ هؤلاء خرجوا من السجون الإسرائيلية إلى خيام النزوح، فيما العدوان المتواصل وأزيز الطائرات ودوي القذائف تفاقم حالاتهم النفسية أكثر". ويكمل موسى أنّ "الفلسطينيين الذين أُفرج عنهم يعيشون بمعظمهم حالات خوف وشعور بالعجز والارتباك وصعوبة في التركيز والاكتئاب الشديد والانسحاب الاجتماعي. وهذه من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة"، لافتاً إلى أنّ "ثمّة أشخاصاً وصلت الحال بهم إلى الهلوسة بمختلف درجاتها".