"لو دفنّاه في مقبرة المسافر، لأخرجوه من القبر وعذّبونا". بهذه العبارات يوضح رسمي أبو عرام، والد الشهيد هارون، سبب اضطراره إلى اتخاذ قرار دفن جثمان نجله الشهيد خارج مكان سكنه في منطقة مسافر يطا التي تضم 19 قرية فلسطينية بمحافظة الخليل جنوبي الضفة الغربية، بعدما ساورته مخاوف من إقدام قوات الاحتلال الإسرائيلي على نبش قبر ابنه، إثر تهديد تلقاه بعد إعلان استشهاد هارون في 24 فبراير/ شباط الماضي.
هكذا اضطرت عائلة أبو عرام إلى دفن الشهيد هارون في مقبرة بمدينة يطا، تخوفاً من تنفيذ الاحتلال الإسرائيلي تهديده بإخراج الجثمان في حال دفنه قرب مكان سكن أهله، والذين يؤكدون أن امنيتهم في أن يدفن بينهم لم تتحقق.
يروي الوالد لـ"العربي الجديد": "هارون استشهد إثر إطلاق جنود الاحتلال الإسرائيلي النار عليه، ما أدى إلى إصابته بشلل، وبانغلاق في شرايين الساق، مما تسبب في بتر قدمه، ولاحقاً حدثت تقرحات حادة في الظهر والحوض، وأصيب بالتهابات في الرئتين، قبل أن يستشهد بعد عامين من المعاناة".خلال السنوات الثلاث الماضية، أنشأ أهالي قرية الديرات في مسافر يطا ثلاث مقابر، لكنها تعرضت للهدم أو تلقت إخطارات بوقف العمل فيها، ويتواصل تخوّف الأهالي من إمكان هدم الاحتلال الإسرائيلي، أو نبشه ثلاث مقابر أخرى قديمة ما زالت موجودة في القرية، بعد أن منع دفن الموتى فيها.
يقول جبريل العدرة، وهو أحد سكان الديرات، لـ"العربي الجديد"، إن "ما يزيد قلق الأهالي هو أن عملية الاقتحام الأخيرة التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي قبل أشهر، شهدت هدم مقبرة في القرية، في قرار لم يهتم لوضع الأهالي الذين كانوا قد دفنوا أمواتاً فيها في الآونة الأخيرة، وقد حصل الهدم قبل وصول الأهالي إلى الموقع لمنعه أو الاعتراض عليه، أو حتى نقل رفات ذويهم".
ويُعيد احتمال نبش الاحتلال الإسرائيلي القبور في مسافر يطا إلى أذهان الأهالي مشهد تحطيم جرافات شرطة الاحتلال مقابر إسلامية في القدس المحتلة في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وانتهاك حرمات الموتى، وتحديداً في مقبرة الرحمة، ومقبرة اليوسفية التي تقع قرب المسجد الأقصى.
يقول رئيس مجلس مسافر يطا، نضال أبو عرام، لـ"العربي الجديد": "إذا هدم الاحتلال منزلاً أو منشأة نذهب للإقامة في كهوف، أو ننصب خياماً ولا نترك الأرض، لكن ماذا نفعل إذا هدموا القبور؟ ندفن الميت كرامة له في مكان لا نريد أن يتعرض لاحقاً لهدم متعمد".
منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين، بات أهالي مسافر يطا يتجنبون دفن موتاهم في مقابر المسافر، ويذهبون بهم إلى مقابر مدينة يطا لتجنب نبش الاحتلال الإسرائيلي القبور، رغم أن المعتاد أن يدفن الأهالي موتاهم قريباً من مساكنهم. يوضح نضال أبو عرام: "المرء يكرّم عند موته عبر دفنه في قبرٍ مجاور لمكان نشأته وعيشه".
ويشير جبريل العدرة إلى أن "عدم دفن الموتى في منطقة مسافر يطا يجعل الأهالي يواجهون مشقات وتعب بسبب التنقل من المسافر إلى مدينة يطا، فضلاً عن ارتفاع تكاليف شراء القبور، لأنهم لا يملكون أراضٍي في يطا، فيضطرون إلى دفع مبالغ مالية لشرائها بدلاً من دفن موتاهم في أراضيهم".
ويحتاج أهالي مسافر يطا إلى نحو ساعة ونصف الساعة، بحسب الطريق التي يسلكونها، للوصول إلى مدينة يطا التي تبعد مسافة تتراوح بين 15 إلى 23 كيلومتراً، فالطرق صعبة وغير معبّدة، كما يواصل الاحتلال منع تنفيذ أية أعمال لتأهيلها أو تعبيدها، ما يزيد من صعوبات التنقل.
يقول منسق اللجان الشعبية لمقاومة الجدار والاستيطان في شرق يطا وجنوب الخليل، راتب الجبور، لـ"العربي الجديد": "من أجل تشريع عدوانه على الضفة الغربية، استبدل الاحتلال الإسرائيلي القانون الأردني الذي كان يحكم الأراضي الفلسطينية في مسافر يطا بقوانين أخرى تخضع للحاكم العسكري، ووفق هذه القوانين، بات يُسمح بهدم القبور من دون أي رادع. غيّر الحاكم العسكري الإسرائيلي القوانين بحسب أهداف الاحتلال، فأصدر في عام 2019 خمسة قوانين مختلفة للتضييق على دفن الموتى في المسافر، بحجّة أن أراضي المقابر قريبة من طرق التفافية، أو لأن الأراضي تصنّف باعتبارها محمية طبيعية".
وقرر الاحتلال الإسرائيلي في 8 يوليو/ تموز 2021، هدم مقبرة تتبع لقرية الديرات بمسافر يطا، ما دفع مجلس المسافر إلى اتهام الاحتلال بالتعامل مع القبور كأنها منشآت لا تملك ترخيصاً، بغض النظر عن قيمتها الإنسانية المرتبطة برقود أموات تحتها بسلام، وهذا ما لا يريده الاحتلال للأحياء والأموات معاً.
وتعاني التجمعات السكنية التي يعيش فيها نحو 3 آلاف شخص في مسافر يطا من خطر التهجير والإخلاء بعد أن قضت المحكمة العليا الإسرائيلية في 4 مايو/ أيار 2022، بأنه "لا عقبات قانونية تمنع تنفيذ خطط طرد السكان الفلسطينيين من مسافر يطا، من أجل إتاحة المجال أمام إجراء تدريبات عسكرية".
وفي الثاني من يناير/ كانون الثاني الماضي، أبلغت سلطات الاحتلال الارتباط المدني الفلسطيني، بقرار إخلاء 6 قرى وتجمعات في المسافر خلال هذا العام، بحسب ما أفادت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، ما يزيد القلق من تهجير أكثر من ألفي فلسطيني يعيشون فيها، علماً أن المحاكم الإسرائيلية رفضت منذ عام 2000 وحتى 4 مايو/ أيار 2022، كل الالتماسات التي قدمت لها في شأن إخطارات الهدم والتهجير والإخلاء.
وشهدت الأشهر الأخيرة تنفيذ الجيش الإسرائيلي تدريبات على إطلاق النار قرب منازل الفلسطينيين في المنطقة، ومصادرة مركبات للأهالي، وتكرار منعهم من الوصول إلى أراضيهم الزراعية التي يعتاشون منها، أو إدخال جرارات زراعية لحرث أراضيهم وتهيئتها للزراعة، وذلك بحجة اقتراب صدور قرار الإخلاء، كما هدم الاحتلال المدرسة الوحيدة في المنطقة.