أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، الخميس، توقف 76 بئراً للمياه ومحطتين لمياه الشرب عن العمل في قطاع غزة بسبب نفاد الوقود، ليصبح الحصول على المياه أكثر صعوبة من أي وقت بالتزامن مع بقية الأزمات الحاصلة منذ بداية عدوان الاحتلال، فضلاً عن توقف 15 محطة لضخ مياه الصرف الصحي، ما تسبب بغرق عدد من شوارع مدينة رفح جنوبي القطاع.
يقبل الغزيون حالياً أي كميات من المياه لاستعمالها في تفاصيل حياتهم اليومية، حتى لو كان مصدرها مجهولاً، أو كان لونها لا يوحي بأنها نظيفة، وتلك المياه يمكن استخدامها في غسل الأواني أو الملابس وغيرها.
ويصارع النازحون في مدينة خانيونس يومياً للحصول على مياه الشرب عبر زجاجات يحملونها خلال الوقوف في الطوابير الطويلة، والمياه ليست نظيفة كما تبدو، لكنها أفضل ما يتوفر، لكونها تظل صالحة للشرب.
جمعت رماح أبو حلوان المياه من صنابير مجمع ناصر الطبي، وتقول إنها تحرص على الحصول على ما يتاح لها في فترات منتصف الليل، فحينها يكون هناك عدد قليل من النازحين الراغبين في الحصول على المياه من الصنابير القليلة في المجمع، والتي تسمح إدارة المستشفى للنازحين باستخدامها من أجل الوضوء أو النظافة الشخصية، كما تتغاضى عن بعض من يعبؤون المياه بكمية أكبر خلال الليل.
تستخدم أبو حلوان (43 سنة) مياه صنابير مجمع ناصر الطبي لغسل الملابس، فلديها 5 أبناء أكبرهم عمره 18 سنة، وأصغرهم خمس سنوات، وقد نزحت من قرية "المغراقة" في وسط قطاع غزة بعد تضرر منزلها إلى خيمة بالقرب من المجمع الطبي، لكنها تشير إلى أن المياه شديدة الملوحة، ولا تصلح في بعض الأحيان لغسل الوجه، لكن لا بديل أمامها سوى استخدامها.
انقطاع المياه مصدر خطر كبير داخل مخيمات قطاع غزة الثمانية
وتقول لـ"العربي الجديد": "أقترب عادة من الخيمة المخصصة للصحافيين لتغطية ما يجري داخل مجمع ناصر الطبي، لأسمع الأخبار، فليس لدينا مصدر للطاقة، وبالتالي لا راديو ولا تلفزيون ولا إنترنت حتى نبقى مطلعين على الأخبار، ويزيد قلقي من إمكانية تقلص كمية المياه الواصلة إلينا حسب الأخبار المتداولة".
تواصل أبو حلوان: "الناس في غزة على دراية بواقع المياه منذ سنوات، لكن في الوقت الحالي، أي قطرة ماء حتى لو من السماء هي مهمة، وابني الكبير نضال يقوم بمهمة جمع المياه حتى نشرب، وفي بعض الأحيان أستثني نفسي، أو أحصل على كمية أقل حتى يشرب أبنائي، والمياه طعمها غير جيد، وليست نظيفة بالتأكيد، لكنها تظل أفضل من مياه أخرى نحصل عليها للاستخدامات العادية، وبعض الناس يستخدمون أي مياه متوفرة، فالمهم هو توفر أي نوع من المياه".
وحسب تقارير الأمم المتحدة في مارس/أذار الماضي، فإن 90 في المائة من سكان قطاع غزة الذين تجاوز عددهم مليونين و300 ألف نسمة، يعانون من أزمات في مياه الشرب الآمنة، ويعيشون بالحد الأدنى من الخدمات الأساسية في واقع اقتصادي مترد، ورغم مشاريع الدعم لقطاعات المياه عبر منظمات دولية، إلا أنها تظل مرهونة بالحصار الإسرائيلي والتحكم في المعابر الحدودية.
وأبرزت وكالة "أونروا" أزمة المياه في تصريحاتها، مؤكدة أنها باتت غير قادرة على تأمين حاجة كافة مراكز الإيواء، وصرح مدير عام الوكالة في غزة، توماس وايت، أن "70 في المائة من سكان غزة لم يعد لديهم إمكانية الحصول على مياه نظيفة بسبب نفاد الوقود، وأن مياه الصرف الصحي تتدفق في شوارع رفح. نقص مياه الشرب يؤدي لزيادة حالات الإسهال، ومع سوء الصرف الصحي والخدمات قد يكون الوضع مميتاً، خصوصاً في المدارس التي تحولت إلى مراكز نزوح".
ويعتبر انقطاع المياه مصدر خطر كبير داخل مخيمات قطاع غزة الثمانية في ظل الكثافة السكانية العالية، وعملت وكالة "أونروا" على مشاريع للمياه خلال السنوات الأخيرة، وعلى تطوير البنية التحتية في المخيمات، وتقليص الضغط عن المياه الجوفية. لكن الوكالة الأممية كانت تحصل وقتها على الوقود بشكل مستقل من معبر كرم أبو سالم، ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي لم يسمح الاحتلال بإدخال أي من حاجيات المنظمات الدولية، رغم أنه سمح مؤخراُ بإدخال كميات محدودة من الوقود لتسيير شاحنات الوكالة، وليس تشغيل محطاتها.
ينتظر الغزيون لساعات طويلة في الطوابير للحصول على مياه الشرب
في داخل إحدى مدارس أونروا بالقرب من تل السلطان غربي مدينة رفح، يجلس إسماعيل أبو وردة حاملا عددا من زجاجات المياه هو وأبناؤه بانتظار قدوم شاحنة الوكالة لتزويدهم بالمياه، فهو من بين مئات النازحين إلى المدرسة الذين يصفون الزجاجات بالقرب من الخزانات الفارغة للحصول على دور في طابور التعبئة.
يقول أبو وردة (50 سنة) إنه لم يشهد في حياته أزمة مماثلة للحصول على المياه، رغم أنه نزح مرتين قبل العدوان الحالي، لكن لم يحصل أنه واجه صعوبات في الحصول على مياه. نزح إسماعيل من بلدة جباليا شمالي قطاع غزة إلى مدينة رفح في جنوبي القطاع، وهو يتمنى أن تهطل الأمطار مجدداً، وقام مع بقية النازحين إلى داخل المدرسة بفتح خزانات المياه في منتصف الساحة أملاً أن تمتلأ بمياه الأمطار عند هطولها كما هو متوقع خلال الأيام القادمة.
لدى أبو وردة 9 أبناء، ويخرج مع غيره من النازحين يومياً للبحث عن أية مصادر مياه في مدينة رفح، لكن الطوابير تضم المئات، وينتظرون عادة لساعات طويلة للحصول على كميات محدودة من المياه. يقول لـ"العربي الجديد": "سألت أحد موظفي أونروا عن حلول، فأكد أن الوكالة تعيش أزمة حقيقية، وليس لديهم معلومات. عانى البعض قبل أيام من الأمطار، وغرقت بعض الخيام، وأنا من هؤلاء، وكنا نناشد أمام الإعلام توفير حلول حتى لا نغرق، واليوم أنا وغيري نتمنى أن تهطل الأمطار مجدداً حتى نقوم بتعبئة الزجاجات والأواني بمياه السماء، حتى أننا فتحنا الخزانات التي وضعتها وكالة أونروا داخل كل مدرسة إيواء حتى تتجمع فيها مياه الأمطار".
بالقرب منه، وفي نفس المدرسة، يقيم محمد الزهار (45 سنة)، وهو نازح من شمالي القطاع، رفقة عائلته المكونة من 25 فرداً، وهو يقوم يومياً بعمل "حسبة" لعدد لترات المياه التي يحتاجها. يقول لـ"العربي الجديد": "أنا مضطر لحساب استخدامنا اليومي من المياه، وأقدر زجاجة لتر ونصف للاستحمام، وزجاجة لتر واحد لاستخدامات الحمام، وزجاجة مثلها لغسل اليدين، وزجاجة لترين او لتر ونصف للشرب، ما يعني ستة لترات ونصف يومياً، لكن حتى هذه الكمية القليلة يصعب الحصول عليها يومياً، ولا ضمان إلا إن جاء الحل من السماء".
ويعتبر المستشار الإعلامي لوكالة أونروا في غزة، عدنان أبو حسنة، أن الأيام الأخيرة شهدت تزايد الخطر المائي عما كانت عليه الأوضاع طوال السنوات الماضية التي شهدت الكثير من الأزمات التي واجتها أونروا، ويضيف: "يصطف عشرات آلاف الغزيين في طوابير من أجل الحصول على المياه، ووراءهم مئات الآلاف ممن ينتظرونهم، نظراً لأن معظم محطات المياه أغلقت أبوابها، بينما مياه الصرف الصحي تغمر شوارع عديدة في مختلف مناطق القطاع".
ويؤكد أبو حسنة في تصريحات للصحافيين: "لا يمكن استخدام الوقود كسلاح في الحرب، وما دخل من الوقود إلى غزة مشروط باستخدامه للشاحنات، وهو أمر لن يحل أي من المشاكل التي نواجهها، إذ يعني أننا لا نستطيع إيصال هذا الوقود لأي منشأة من المنشأت الخدمية التي ترتبط بنا، مثل محطات تحلية المياه أو محطات الصرف الصحي، وحتى بعض المشافي والمخابز".
يتابع: "لغاية 16 نوفمبر/تشرين الثاني، قتل 103 من موظفينا نتيجة القصف الإسرائيلي، والأرقام في الأغلب أعلى من ذلك بكثير، إذ إن هناك صعوبات في إزالة ركام الأنقاض، وأعداد المفقودين تجعلنا غير قادرين على معرفة من قضوا من الموظفين، ويجب فتح المعابر لإدخال الاحتياجات الإنسانية، وتوسعة أماكن الإيواء، وجعلها أماكن آمنة، وأن تصل إليها كافة المساعدات الإنسانية".