يحتفل العالم بوداع عام 2023 بأشكال مختلفة في حين يعيش أهالي غزة مع أصوات قذائف المدافع والصواريخ التي لا تكاد تتوقف، على أمل انتهاء العدوان في العام الجديد
بحلول صباح اليوم الأول من عام 2024، يمر 87 يوماً على العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، والذي يعتبر أقسى عدوان عاشه سكان القطاع منذ النكبة الفلسطينية في عام 1948، ويخشى الآلاف أن تصيبهم غارات الطيران الحربي الإسرائيلي القاتلة، أو قذائف المدافع والبوارج البحرية، في حين تضيء عشرات الانفجارات المدمرة الليل في مناطق كثيرة من القطاع الذي يعيش نهاية عام حزينة.
وبينما يشعر الغزيون أنهم على حافة الموت، قصفاً أو جوعاً أو مرضاً، فإنهم يعيشون حسرة كبيرة وهم يشاهدون الاحتفالات الباذخة بالعام الجديد في عدد من الدول، ومن بينها بلدان عربية لم تقدم شيئاً للتخفيف من مأساتهم المتواصلة.
ولا جدال في أن الأمنية الأساسية للغزيين داخل مراكز الإيواء والخيام المنتشرة في مناطق جنوبي القطاع هي انتهاء العدوان "اليوم قبل بكرة"، حسب المقولة المتداولة، والتي تخرج من الأفواه بحزن وقلق لأن الكثير منهم لا يعرف ما الذي سيحصل بعد نهاية العدوان، فالآلاف صاروا بلا منازل، واللجوء الحالي هو مقدمة للجوء طويل متوقع، خصوصاً أن فصل الشتاء ما زال في بدايته، وبرده القارس يضربهم بعنف.
نزحت المسنة رتيبة الخالدي (60 سنة) مع عائلتها إلى مدينة رفح، وهم يعيشون في داخل خيمة منذ قرابة ثلاثة أسابيع، وتقول لـ"العربي الجديد": "كلنا نتمنى أن ينتهي العدوان بسرعة حتى نعود لتفقد منازلنا، سنعيش فيها حتى لو كان المتبقي منها غرفة واحدة. عندما تركنا منزلنا في حي النصر بمدينة غزة كان سليماً، وحتى لو تضرر، فسيظل أفضل من حياة التشرد. نتعرض للذل من أجل الحصول على كمية من الدقيق لنعد الخبز، وأتمنى أن ينتهي الاحتلال حتى لا يتكرر العدوان".
تتابع الخالدي: "أصيب ابني الأكبر وثلاثة من أحفادي في القصف، وكنت شاهدة على معاناتهم في الحصول على العلاج. أتذكر في هذا العدوان أمي الراحلة، التي كانت تكرر دائماً أنها تريد أن تموت وهي واقفة على رجليها، وهذا ما جرى بالفعل قبل 20 سنة، وأنا مثلها أتمنى ذلك. لا أريد أن أصاب أو أمرض، وأتسبب في معاناة عائلتي".
كانت ردة فعل غالبية الغزيين هي الضحك عندما سألناهم عن أمنيات العام الجديد، واعتقد كثيرون في البداية أننا نمزح، فواقعهم مزرٍ، وأمنياتهم واضحة، وهم يريدون أن يحصلوا على غذاء وماء كافيين، وأن يستيقظوا أحياءً في اليوم التالي.
خسر المسن سليمان عابد (63 سنة) منزله المكون من أربعة طوابق في مدينة غزة، والذي بناه قبل 25 عاماً، ويعيش حالياً قرب الحدود المصرية، وقد نجا من الموت خلال العدوان الإسرائيلي عدة مرات، لكنه يعتقد أن الموت بات قريباً بعد أن شاهد الدمار الكبير في أنحاء القطاع.
يقول عابد لـ"العربي الجديد": "لست خائفاً من الموت، فأنا مؤمن بالله، والمؤمن لا يخشى الموت، وأتمنى أن أموت بينما أنا ساجد، عندها سيكون قلبي مطمئناً، أما أمنيتي في الحياة، فهي أن يستيقظ الضمير العربي، فقد علمت أبنائي أن القرآن نزل بلسان عربي، وميز الله العرب بلغتهم، وحتى تكتمل هذه الصورة، ينبغي أن يصحو ضمير العرب، فالكثير من الدول كانت تستطيع مقاطعة الاحتلال، ومعاقبته على استمرار الحرب على الأبرياء في غزة".
أما نجلاه عبد السلام (34 سنة) وإياد (29 سنة)، فأمنياتهما تدور حول توقف العدوان سريعاً، وأن يعودوا جميعاً إلى منطقتهم، ويحصلوا على كرافانات ليعيش فيها جميع أفراد العائلة بدلاً من البقاء في الخيام، وألا يضطروا إلى الانتقال للإقامة في مدارس الإيواء.
يكرر عبد السلام بعض الأمنيات لمنح أطفاله قليلاً من الأمل في الأيام الأخيرة، فمنذ نزوحهم، يكرر أطفاله الثلاثة طرح أسئلة حول مصيرهم وإلى أين سيذهبون بعد تدمير منزلهم، ما جعله يقول لهم إنهم سيحصلون قريباً على كرافان للعيش فيه، وإنه سيصمم لهم غرفة صغيرة داخل الكرافان، ثم يحكي لهم كيف يكون شكلها.
يقول عبد السلام عابد لـ"العربي الجديد": "أعتقد أننا سنحصل على كرافان كما حصل مع أصحاب البيوت المدمرة خلال العدوان الإسرائيلي في صيف عام 2014. لا نملك شيئاً سوى الأمنيات، وحتى لو كنت محبطاً في الحقيقة، فستجدني متفائلاً أمام أطفالي، وقد أصبحوا يحلمون بالكرافان، وأنا أؤكد لهم أننا سنقضي مدة فيه حتى يُعاد إعمار منزلنا، وأنني سأشتري لهم كل شيء يحبونه عندما تتوقف الحرب. أريد أن أشاهد أحياء غزة، وأريد أن أذهب للمشي على شاطئ البحر، وأن أرى أطفالي يلعبون من دون خوف من القصف".
ويقول شقيقه إياد: "أمنيتي ألا أسمع أصوات طائرة الاستطلاع الإسرائيلية مجدداً. لديّ طفل عمره عام ونصف، وأريد توفير منزل له. هو حالياً لا يستوعب ما يجري من حوله، ولا أريده أن يكبر نازحاً بينما ننتظر إعادة إعمار منزلنا المدمر".
ويسود وضع إنساني كارثي أنحاء قطاع غزة الذي يناهز عدد سكانه 2,4 مليون نسمة، وقد اضطر نحو 85 في المائة منهم إلى الفرار من منازلهم هرباً من قصف الاحتلال الإسرائيلي، وفق بيانات الأمم المتحدة. وجدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس دعوته إلى "وقف إطلاق نار إنساني فوري"، فيما حذرت منظمة الصحة العالمية من تزايد خطر تفشي الأمراض المعدية بين سكان القطاع.
وقال رئيس العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة مارتن غريفيث، الجمعة، إن "السكان النازحين المصابين بصدمة والمنهكين يتكدسون على قطعة أرض تزداد صغراً". في حين كتب المفوض العام لوكالة "أونروا"، فيليب لازاريني، في بيان، أن "كمية المساعدات المقدمة، الضرورية والعاجلة، لا تزال محدودة، وتواجه عقبات لوجستية عدة".
على مقربة من الحدود المصرية، يشعل أحمد الوحيدي (41 سنة) سيجارة، وينظر إلى معبر رفح، ثم إلى داخل القطاع، ويقول: "أدخن أغلى سيجارة اشتريتها في حياتي في أحد أسوأ أيام حياتي، فأخيراً حصلت على علبة من سجائر الرويال التي أدخنها بعد انقطاع لعدة أيام".
يؤكد الوحيدي لـ"العربي الجديد": "في العام الماضي، أجرت إحدى قنوات التلفزيون المحلية لقاء معي في شارع عمر المختار، بالتحديد في ساحة الجندي المجهول، وسألتني عن أمنياتي، فنظرت حينها إلى الشارع، وقلت إنني أريد أن يتغير حالنا، وأن يجد العاطلون عن العمل من حولي عملاً. الآن، أتمنى فقط أن أعود إلى هذا المكان. دمر الاحتلال شارع عمر المختار، وساحة وحديقة الجندي المجهول، واليوم أخاف أن أحلم مجدداً. أتمنى فقط أن نعود إلى حياتنا السابقة رغم كل ما كان فيها من صعوبات، وأتمنى ألا أجبر على الحصول على مساعدات. نحن شعب لا يحب المذلة، وهذه المساعدات المحدودة في نظري مجرد جبر خواطر من حكومات عربية لا تفعل شيئاً لحمايتنا سوى تكرار الإدانة".
من داخل مدرسة رفح الإعدادية للبنات، يرفض العديد من النساء والرجال الإجابة عن سؤال الأمنيات، معتبرين أنهم إن بقوا أحياء، فعندها يمكنهم التفكير في أمنياتهم. يقول النازح أبو شوقي: "أمنيات الغزيين أصبحت مستحيلة، لأنهم ببساطة يحاسبون على كمية الهواء التي يتنفسونها، وبالتالي يصعب على المسجون أن يحلم سوى بالخروج من السجن".
تجلس نعمة عزت (36 سنة) حاملة رضيعتها، وتقول لـ"العربي الجديد": "لن يفيدني شيء لو قلت لك أمنيتي، فنحن لا نملك أي أمل، ونعيش داخل هذه المدرسة منذ شهر ونصف، ولا نحصل على رعاية صحية، أو مساعدات إنسانية. طفلتي عمرها أربعة أشهر، وأتمنى أن تعيش وتكبر، وألا تتعرض لعدوان إسرائيلي جديد".
أنجبت عزت طفلتها الكبرى أثناء العدوان الإسرائيلي في أغسطس/آب 2014 في مجمع الشفاء الطبي، وتتذكر أنها كانت تعاني من حالة انهيار عصبي، وخضعت لمحاولات لتحفيز الطلق الطبيعي تحت القصف الإسرائيلي، وشاهدت في المستشفى أشلاء وجثامين شهداء. تقول: "عشت العدوان قبل 9 سنوات. حينها كنت شابة صغيرة، وأخاف من مشاهد الموت، وفي العدوان الحالي، أصبحت أشاهدها بجبروت المرأة الفلسطينية، لكني أتمنى ألا يعيش أطفالي ذلك، وأريد أن يكبروا بسلام كأي طفل عادي".