على كورنيش البحر في غزة يتجمع الناس أمام بسطة فادي العربي الملقب بـ"أبو عبد الله العمري" المحبوبة كثيراً بالنسبة إليهم، والتي تقدم للمارة من جميع المحافظات "زبدية الذرة" التي كان قد ابتكر تقديمها بالصدفة، ومن خلال أسلوب خاص في الإعداد، بعدما واجه الفقر المدقع في فترات عدة من حياته، واختار بيعها على شاطئ البحر، حيث تحوّل إلى "ملك الزبدية" بالنسبة إلى الغزيين، علماً أن نشاطه تواصل في شهر رمضان، وتحديداً طوال فترة المساء، حتى أذان الفجر.
يُعِدّ "أبو عبد الله" (38 عاماً) "زبدية الذرة" عبر مزج الذرة بالجبن والشطة وبعض البهارات البسيطة ووضعها في الفرن. وأصبحت بسطته بين الأشهر الموجودة على شاطئ بحر غزة، علماً بأنه كان يتنقل سابقاً على عربة خوفاً من تخريب البسطة وتدميرها، كما حصل سابقاً مع باعة آخرين واجهوا مشاكل مع بلدية غزة في شأن تخصيص أكشاك لمصالحهم.
وحصل مرة أن أعدّ "أبو عبد الله" طبقاً من الذرة داخل فخارة يطلق عليها الفلسطينيون اسم "الزبدية"، ووضع فيها مكونات من بهارات وغيرها، وقدمها أولاً إلى زبون يقصد بسطته دائماً خلال فترة المساء، وبعدها إلى أكثر من زبون، بعدما وجد أن التنافس كبير بين الباعة المنتشرين على شاطئ البحر. ثم أقبل على بسطته غزيون يملكون حسابات على موقع "إنستغرام" تتمتع بنسبة متابعة كبيرة، فنشروا تجربتهم مع "زبدية الذرة"، ما أكسبها شهرة كبيرة في كورنيش غزة.
يقول العمري لـ"العربي الجديد": "امتلأت حياتي بمحطات مأساوية، وبينها إغلاق بلدية مدينة غزة بسطة أنشأتها باستخدام القوة في بداية أكتوبر/ تشرين الأول 2021، علماً أنني تلقيت عشرات من التحذيرات سابقاً، التي رفضتُ أن أصغي إليها نتيجة عدم وجود مصدر دخل لي، فأنا أعمل بائعاً للذرة منذ أن كنت طفلاً، أي منذ 23 عاماً".
يضيف: "تولّد المأساة التي يتردد صوتها عالياً تضامناً كبيراً، وهذا ما حصل معي عندما اعترضت على قرار البلدية التي تسعى لتنظيم العمل على شاطئ البحر، لكن من دون أن يعرف عناصرها معنى بحث الفقراء عن لقمة العيش. وتضامن معي الجميع، ثم وجدت أن المنافسين كثر، فقررت تقديم هذه الزبدية لأنني شخص أحب الابتكار، حتى خلال العمل مع زوجتي في إعداد بعض أطباق الطعام. واليوم أعتبر أن فكرة زبدية الذرة نزلت لي كنجمة من السماء".
ويتميز أبو عبد الله بتبادل الأحاديث العفوية مع زبائنه الذين يغني لهم مواويل أحياناً. وهو يردد لهؤلاء الزبائن مقولة: "في كل محكمة قضية، وفي كل سجن بطانية، وفي كل بيت زبدية، وأبو عبد الله ملك الزبدية"، علماً أن خمسة عمال يساعدونه في تنظيم مقاعد الجلوس وتقديم الذرة والمشروبات.
وليس ابتكار أبو عبد الله "زبدية الذرة" الأول له، إذ قدم الذرة المعدّة بالطريقة الصينية داخل فرن، ثم أخرى بالطريقة السورية التي تسمى "المسحب". ولقي النوعان إقبالاً كبيراً، كذلك أطلق على أكبر وعاء ذرة يقدمه للزبائن اسم "ذرة الفجر"، علماً أن أسعار الذرة التي يقدمها في أطباق وكؤوس مختلفة تراوح بين 2 و5 شيكل (0.6 و1.5 دولار).
ويؤكد أن كورنيش البحر قبلة الغزيين في الشتاء أيضاً، وليس الصيف فقط، من أجل التنفيس عن همومهم اليومية الكثيرة وعدم تغيّر أوضاعهم المجتمعية والنفسية. ويخبر أن بعض الزبائن يناقشون همومهم اليومية معه، ما يجعله يضطلع بدور الإذن المصغية إلى كل مشاكلهم".
يضيف: "الظروف المعيشية صعبة جداً، وألاحظ أن بعض الشبان يطلبون زبدية ذرة واحدة كي يأكلها اثنان في ذات الوقت، ويأتي إلى البسطة أحياناً رجال للهرب من الالتزامات المنزلية، كذلك صادفت مرة رجلاً لاحقته الشرطة، وقال لي: أريد أن أتناول آخر زبدية ذرة".
ويقول أحد زبائن أبو عبد الله، ويدعى عمر الصباغ لـ"العربي الجديد": "أضافت الذرة التي يقدمها أبو عبد الله طابعاً جديداً على كورنيش البحر. بالنسبة إلينا، أصبحت الذرة أكلة لا يمكن أن نتناولها في المنازل، ومخصصة للبحر ومرتبطة به. مع استنشاق هواء البحر يحلو الطعام، وأبو عبد الله جزء من عائلتنا الكبيرة، ونحن نهرب من المنازل لأننا ندور في ذات حلقة الكآبة الدائمة".
ويجذب كورنيش غزة سكاناً كثراً يأتون من مناطق عدة في المدينة، وهم من طبقات مختلفة، بينهم التاجر ورجل الأعمال والموظف والعامل، إلى جانب سيدات يأتين فرادى، وأخريات في مجموعات إما أسرية أو مع صديقات.