ولا تزال حركة النهضة تتمسك في تصريحاتها الرسمية بالشيخ راشد الغنوشي مرشحاً وحيداً لرئاسة الحكومة التونسية. لكنها بدأت تظهر قدراً من المرونة أخيراً، بعد المعارضة الواسعة التي لقيتها من قبل عدد من الأحزاب، مفسحةً المجال أمام احتمال اختيار وجه نهضوي آخر لتولي المنصب، على أساس مقايضة تقوم على تخلي الغنوشي عن رئاسة الحكومة، في مقابل ترشيح الحركة لرئاسة البرلمان، وهو احتمال يمكن أن تقبل به العديد من الأحزاب التي تحاورت معها، مثل "التيار الديمقراطي"، على ألّا يكون رئيس الحكومة شخصية نهضوية.
ويقر كثيرون بأن من حق "النهضة" دستورياً التمسك برئاسة الوزراء، على اعتبار أنه لو كلّف أي حزب آخر هذه المهمة، لأصرّ على تولي أحد قادته هذا المنصب. يضاف إلى ذلك أنه سبق للحركة أن ساعدت رؤساء حكومات سابقين، لكنهم انقلبوا عليها. آخر هؤلاء رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، الذي لولا مساندة الحركة له، لأطاحه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، علماً كذلك أن رؤساء سابقين للحكومة عملوا على الخروج عن أحزاب قامت بتزكيتهم، حتى لو كان هذا الحزب حزبهم، مثلما حصل مع حمادي الجبالي (ديسمبر/كانون الأول 2011-مارس/آذار 2013) الذي تمسك بصلاحياته، وعندما اختلف مع "النهضة"، فضّل الانسحاب والاستقالة.
وعلى الرغم من استمرار الجدل حول هوية المرشح لرئاسة الحكومة، إلا أن حركة النهضة بادرت إلى إعداد "مشروع وثيقة تعاقد الحكومة"، وهي ورقة ضمنتها أولوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتضمنت هذه الوثيقة خمسة أهداف تنموية و120 مقترحاً عملياً لتجسيدها على أرض الواقع. وأرادت الحركة من وراء خطوتها هذه نفي التهمة الموجهة إليها بكونها جماعة أيديولوجية لا تملك بدائل على مستوى السياسات. أما هدفها الثاني، فهو نقل النقاش مع بقية الأحزاب من الأشخاص إلى البرنامج الحكومي، باعتبار أن ذلك هو الأصل، وما سيأتي بالمنفعة للمواطنين. لكن على الرغم من أهمية الخطوة منهجياً، إلا أن شركاء الحركة المفترضين تمسكوا بضرورة الحسم في مسألة رئاسة الحكومة قبل مناقشة الأفكار والسياسات التنموية.
وتخشى النهضة أن تدفعها ضغوط الأحزاب التي اعتقدتها قريبة منها، إلى الدخول في مغامرة غير محسوبة العواقب، إذ لا يستبعد البعض احتمال توسع رقعة المشاورات لتشمل أيضاً حزبي "تحيا تونس" (الشاهد)، و"قلب تونس" الذي يرأسه نبيل القروي، والذي يمثل الكتلة الثانية في البرلمان، ويدور حديث عن حصول اتصالات مع بعض كوادره بعيداً عن الأضواء. وتجنباً للعزلة، قد تستخدم "النهضة" خياراتٍ متاحة، غير أن من شأن مثل هذا الاحتمال أن يضعها في مأزق آخر، نظراً لأنها وعدت قواعدها وجمهورها الانتخابي بعدم التحالف مع حزب القروي بحجة وجود شبهة فساد تحوم حوله، فيما وضعت هذه المسألة في مقدمة أهداف برنامجها الحكومي. ومن شأن التحالف مع "قلب تونس" إعادة تكرار السيناريو ذاته الذي حصل مع "النداء"، بحسب رأيها.
في المقابل، يبرز التقدم في الاتفاق مع كتلة ائتلاف الكرامة التي تملك 21 مقعداً بالبرلمان، كالإنجاز الوحيد الذي توصلت إليه لجنة التفاوض حتى الآن. وأكد نور الدين البحيري، أن حركة النهضة وائتلاف الكرامة "تقدما في الاتفاق بخصوص ضرورة التسريع في تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الحركة، لأن البلاد لا تحتمل حالة الفراغ". وعبّر الطرفان عن تخوفهما "من تنكر بعض القوى الثورية لوعودها الانتخابية، وبحثها عن مبررات للتنصل من واجب المشاركة في الحكومة المقبلة، ووضع شروط غير مقبولة"، في إشارة الى موقفي "حركة الشعب" و"التيار الديمقراطي". لكن الحركة تدرك أن هذا الشريك سيضعها في حرجٍ حاد، نظراً لكثرة خصوماته، سواء مع عموم الأحزاب السياسية العلمانية، أو مع "اتحاد الشغل" الذي وصف أحد قادة "الكرامة" بأنه "يشكل خطراً على الاتحاد وعلى البلاد". وكان سبق للمتحدث باسم هذا الائتلاف سيف الدين مخلوف، أن توعد أثناء حملته الانتخابية بمحاسبة النقابيين، مواصلاً الدعوة إلى الفصل بين العملين النقابي والسياسي. كذلك فإن هناك توجساً لدى عدد من الأطراف الخارجية، خصوصاً فرنسا والدول الأوروبية، من ائتلاف الكرامة الذي يطالب باريس بالاعتذار عن سنوات الاستعمار، ويدعوها إلى تقديم تعويضات عن تلك المرحلة. ودعا هذا الائتلاف ولا يزال إلى مراجعة عديد الاتفاقيات الموقعة بين البلدين في فترات سابقة، التي يعتبرها مجحفة بحق تونس.
على الرغم من ذلك، تعتبر حركة النهضة كتلة "الكرامة" رقماً مهماً لا يمكنها التغاضي عنه، وخصوصاً أن شروط هذه الكتلة مختلفة عن غيرها من الكتل، وأن الحركة قادرة على استيعابها والتخفيف من غلوّ بعض قادتها. مع ذلك، فإن رهان النهضة الأساسي يبقى مرتكزاً على الأحزاب الأخرى التي تتمتع بالقبول داخلياً وخارجياً.