فتح إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدء عملية عسكرية في أوكرانيا وتأكيد الكرملين أنه سيقرر مدة العمليات العسكرية وفقاً لتطورها وأهدافها، الباب أمام عدة سيناريوهات عسكرية لكيفية تطور الأوضاع الميدانية، قد لا تقتصر على فرض سيطرة الانفصاليين على منطقة دونباس (تضمّ إقليمي دونيتسك ولوغانسك) بحدودها الإدارية في بداية 2014، بل يمكن أن تتطور لتشمل مناطق أوسع في جنوب أوكرانيا وشرقها، أو حتى كامل الأراضي الأوكرانية.
وما يعزز هذه المخاوف، تصريحات بوتين الأخيرة المشككة في وجود دولة أوكرانية أصلاً، وإشارته في أكثر من مناسبة إلى أنه لا مستقبل لأوكرانيا من دون علاقة متينة مع روسيا، وأن معظم أراضي أوكرانيا الحالية هي نتيجة سياسات البلشفيين، الذين أعطوها مساحات واسعة من أراضي الإمبراطورية الروسية لتشجيعهم على الدخول في الاتحاد السوفييتي، بعد ثورة عام 1917.
شكّك بوتين مراراً بوجود دولة أوكرانية
وإذا كان لكل سيناريو أكلافه العسكرية والسياسية والاقتصادية، فإنّ من المرجح أن تتضمن الخطة الروسية عدة مراحل تتطور وفقاً لردود الفعل الغربية، وتطور الأوضاع الميدانية، خصوصاً أن بوتين أبقى الباب مفتوحاً أمام عدة سيناريوهات في كلمته التي استبقت العملية العسكرية، ومن ضمنها، توسيع العمليات أو اقتصارها على دونباس فقط، مع استمرار التفاوض مع الغرب بعد تحقيق وقائع جديدة على الأرض.
السيناريو الأول... استعادة دونباس فقط
يبدو أنّ استعادة السيطرة على كامل أراضي دونباس هي الهدف الأولي الذي يظهر من خريطة الضربات والتحركات العسكرية الروسية إلى جانب الانفصاليين، وما سبقها من تصريحات بوتين عن حدود الجمهوريتين الانفصاليتين، "جمهورية لوغانسك الشعبية" و"جمهورية دونيتسك الشعبية"، المعلنتين من جانب واحد، وأن روسيا لن تتوقف قبل تحقيقه.
وبعدها يمكن أن تفتح باب التفاوض بين الانفصاليين والحكومة المركزية في كييف على تفاصيل ترسيم حدود المناطق الانفصالية، من جهة، ومن جهة أخرى فتح عملية تفاوض سريعة مع الغرب، تتضمن أولاً الإعلان بصراحة عن تراجع حلف شمال الأطلسي عن ضمّ أوكرانيا، أو إعلان حكومة كييف كتابياً تراجعها عن نية الانضمام إلى الحلف، على أن تمنح روسيا ضمانات بأنها لن تواصل عمليتها العسكرية في باقي الأراضي الأوكرانية.
وقد استبق بوتين العملية العسكرية بحسمه الجدل بشأن الحدود التي اعترفت فيها روسيا بـ"جمهوريتي" دونيتسك ولوغانسك، وأكد يوم الثلاثاء الماضي أن بلاده اعترفت بحدودهما المنصوص عليها في دستوريهما.
وأشار حينها إلى أنه "يجب رسم حدود أكثر دقة خلال المفاوضات بين ممثلي الجمهوريتين مع أوكرانيا". ودعا إلى "حل جميع القضايا الخلافية في سياق المفاوضات بين سلطات كييف الحالية وقيادة هذه الجمهوريات".
وفي مؤشر على سقف توقعاته المنخفض من عملية التفاوض، قال: "لسوء الحظ، هذا مستحيل في الوقت الحالي، إذ لا تزال الأعمال العدائية مستمرة هناك، فضلاً عن أنها تميل إلى التصعيد".
ويُعَدّ هذا السيناريو الأقل كلفة بشرية بالنسبة إلى موسكو، نظراً لأن المساحة الجغرافية محدودة، ووجود عدد كافٍ من الجنود والمعدات يسمح بحسم الأوضاع بأقصى سرعة عند الانفصاليين والجيش الروسي، كذلك فإن المقاومة الشعبية لن تكون كبيرة جداً.
وإضافة إلى الكلفة الصغيرة، فإنها تحقق هدفاً مهماً، وهو وصل دونباس بشبه جزيرة القرم، وتحويل بحر آزوف إلى بحر داخلي مغلق لروسيا، وحرمان أوكرانيا ميناء ماريوبول الاستراتيجي.
السيناريو الثاني... العين على خاركيف وأوديسا
وإذا أراد بوتين تحقيق ما ورد حرفياً في خطاباته السابقة، وهو إعادة أوكرانيا إلى الحدود التي كانت موجودة عليها قبل الانضمام إلى الاتحاد السوفييتي، وخطاب إعلان الحرب الذي أكد فيه ضرورة نزع سلاح أوكرانيا وتخليصها من "النازيين الجدد"، أي حكامها الحاليين، فهذا يعني توسيع العملية العسكرية لتشمل مناطق أوسع، ومنها السيطرة على مدينة خاركيف في الشرق، أو حتى الوصول إلى أوديسا في الجنوب على شاطئ البحر الأسود، وهي الميناء الأكبر هناك، وذات الأهمية القصوى في التاريخ الروسي.
وكان بوتين والمسؤولون الروس قد أشاروا أكثر من مرة إلى أن "النازيين الجدد" ارتكبوا فظائع في أوديسا في 2014.
ويتضمن هذا السيناريو الاستمرار في الضربات على مراكز الاتصالات العسكرية والقواعد الأساسية لانطلاق الطائرات والدفاع الجوي، وسترتفع بموجبه التكلفة البشرية، لكنها لن تكون كبيرة جداً، ويمكن أن يبررها الكرملين لمواطنيه بدفاعه عن الروس الذين يشكلون أقلية وازنة كبيرة في أوكرانيا.
ويمكن أن يكون احتلال خاركيف وأوكرانيا فقط من أجل التمهيد للتراجع الميداني لاحقاً، ولكن هذا الاحتلال سيمنح الانفصاليين أوراق قوة للتفاوض بشأن حدود دونباس.
وستستفيد روسيا من الاحتلال في مفاوضاتها اللاحقة بشأن الوجود البحري لحلف الأطلسي في البحر الأسود كاملاً. وبنهاية هذا السيناريو، ستنتظر روسيا أيضاً نتائج المفاوضات مع الغرب، قبل الانتقال إلى مرحلة جديدة.
السيناريو الثالث... التوسع شمالاً وغرباً
يقول الروس إن "الشهية تأتي في أثناء الأكل"، ولكن هذه المقولة لا تنطبق على السيناريو الثالث في حال تمدُّد العملية العسكرية لتشمل مناطق باتجاه الشمال والغرب الأوكراني.
ويُعَدّ هذا الخيار الأسوأ والأكثر كلفة بالنسبة إلى روسيا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. ومن المؤكد أن الكلفة البشرية ستكون مرتفعة جداً، ولن تستطيع روسيا التقدم سريعاً، نظراً لطول خطوط الإمداد وتزويد الجيش الأوكراني بأسلحة متطورة قد تلحق خسائر كبيرة في المدرعات والدبابات.
لا قدرة لموسكو على خوض حرب استنزاف طويلة
وسيعرّضها هذا التقدم لهجمات من شمال أوكرانيا وغربها، ما يجبرها على عملية عسكرية في تلك المناطق تنطوي على حرب استنزاف طويلة لا تريدها. ولكن الأهم أنها قد تغلق باب التفاوض مع الغرب.
وإذا كان من الصعب معرفة ما يفكر فيه بوتين، خصوصاً بعد أن كشفت تطورات الأزمة الأخيرة في أوكرانيا صعوبة التنبؤ بخطواته، ولكن الواضح أن الخطة الروسية تنطلق من فرض وقائع على الأرض لإجبار الغرب على التفاوض حول أوكرانيا ومنظومة أمن جديدة في أوروبا والعالم تراعي "حق القوة"، وتعيد أمجاد الإمبراطورية الروسية، ويمكن أن تذهب نحو إنهاء كيان الدولة الأوكرانية.
وفي السياق، تُستعاد في الأيام الأخيرة المقولة الروسية الشائعة "نرجو من الرب أن تكون طموحاتنا على قدر إمكاناتنا"، وسط تساؤلات عما إذا كان اقتصاد روسيا يستطيع احتمال العقوبات الغربية المتصاعدة، بعدما بات واضحاً أن القدرات العسكرية تجعل روسيا قادرة على إكمال أي سيناريو.