تستمر المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي وتتمدد في الضفة الغربية المحتلة، على الرغم من محاربة الاحتلال والسلطة الفلسطينية لها على حد سواء، بعد عام 2022 الذي وصفه الاحتلال بأنه العام "الأكثر دموية" منذ 2015.
ويرى مراقبون أن سياسة الاحتلال من عمليات عسكرية واغتيال المقاومين بطرق مختلفة لم تقضِ على المقاومة المسلحة، بل زادت من بأس المقاومين وعددهم، ووسّعت انتشار المقاومة كجيوب تمتد من جنين شمال الضفة الغربية، وفيها كل من المجموعات المسلّحة التالية: "كتيبة جنين" و"مجموعات جبع" و"مجموعات برقين" و"مجموعات قباطية"، مروراً إلى نابلس حيث "عرين الأسود"، و"كتيبة بلاطة" في مخيم بلاطة، لتمتد جنوباً إلى مجموعة مسلحة في بلدة بيت أمر شمال الخليل.
وعلى الرغم من الفارق الكبير بالأرقام بين الشهداء الفلسطينيين والقتلى الإسرائيليين، نظراً للقوة الكبيرة للجيش الإسرائيلي المتطور جداً أمام التشكيلات العسكرية الفلسطينية غير المنظمة، التي يشارك فيها شبّان بعقدهم الثاني والثالث من دون خبرات عسكرية حقيقية، إلا أن الاحتلال ينظر بقلق بالغ لوصول عدد قتلاه إلى 31 قتيلاً العام الماضي، وهو ما لم يحدث منذ عام 2015.
ونشر جيش الاحتلال يوم 29 ديسمبر/ كانون الأول 2022 بيانات عكست القلق من الزيادة الكبيرة بعدد القتلى في صفوفه مقارنة بالأعوام الماضية، إذ قتل أربعة إسرائيليين في عام 2021 وثلاثة في عام 2020، ما يجعل عام 2022 أكثر الأعوام دموية، بحسب وصف الاحتلال، منذ عام 2015.
يُسجَّل لـ"عرين الأسود" منع المستوطنين من الصلاة في مقام يوسف شرقي نابلس
أما فلسطينياً، فقد بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين خلال 2022، 230 شهيداً، بينهم 171 شهيداً من الضفة الغربية احتجز الاحتلال جثامين 28 منهم، و53 من قطاع غزة، و6 من الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948.
ويقول الكاتب والخبير في الشؤون الإسرائيلية عصمت منصور لـ"العربي الجديد": "نحن مقبلون على عام سيشهد مزيداً من التوتر بسبب الحكومة الإسرائيلية المتطرفة من جهة، ومن جهة أخرى فإن التشكيلات المسلحة الفلسطينية اكتسبت صلابة وخبرة أكثر، ولديها حاضنة شعبية كبيرة، ما يجعل قدرتها على البقاء أكبر".
ويتابع منصور: "الأمور ستتصاعد، ولن يكون هنالك أفق للتهدئة في الضفة الغربية، ما يجعل وضع السلطة الفلسطينية أكثر ضعفاً، وستكون مبرراتها أضعف لإنهاء المقاومة المسلحة أمام شراسة الاحتلال".
مقاومة صلبة تهدد الاحتلال
يُسجَّل لـ"عرين الأسود" منع المستوطنين من الصلاة في مقام "يوسف" شرقي نابلس بعد التهديد المباشر في الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ما اضطر المستوطنين إلى الصلاة على حاجز حوارة جنوب نابلس، وذلك للمرة الأولى منذ 15 عاماً على الأقل، وما سبقها خلال سنوات انتفاضة الأقصى. ويضاف ذلك إلى عشرات عمليات إطلاق النار على الحواجز العسكرية المحيطة بنابلس وبلداتها، والتي أحدثت توازناً في الرعب، إذ لم يعد المستوطنون منفلتين في الشوارع الخارجية المحيطة بالمحافظة كالسابق، ولم يعد اقتحام نابلس ومخيماتها مهمة روتينية آمنة للاحتلال.
نسجت المجموعات المسلّحة المقاومة في الضفة علاقات في ما بينها تجاوزت الفصائل الفلسطينية وحساباتها
الأمر نفسه بالنسبة لـ"كتيبة جنين" التابعة لـ"سرايا القدس"، الذراع العسكرية لحركة "الجهاد الإسلامي"، والتي تضم مقاومين من مختلف الفصائل، وبدأت عملها المقاوم صيف 2021 بعد معركة "سيف القدس" (غزة - مايو/ أيار 2021). وقام قادة الكتيبة بتسليح وتدريب مقاومي "العرين" ونسجوا معاً علاقات تجاوزت الفصائل الفلسطينية وحساباتها، وهي محل استهداف من الاحتلال والسلطة. لكن وجود نواة قادة وحدويين من الفصائل وتحديداً من حركة "فتح" و"الجهاد الإسلامي" و"حماس"، يقوّي الجبهة الداخلية لـ"الكتيبة" والمجموعات المسلحة، ويحول دون استفراد أجهزة أمن السلطة بها.
ملاحقون من الاحتلال والسلطة
طيلة العام الماضي لم تتوقف العمليات العسكرية الإسرائيلية واغتيال المقاومين، وفي خط موازٍ لم تتوقف السلطة الفلسطينية عن ملاحقة المقاومين ومصادرة أسلحتهم، واعتقال بعضهم، ومحاصرة من تبقى بحرب نفسية وضغوط ما بين ترغيب وترهيب، وعرض تسويات مالية ووظيفية عليهم مقابل ترك السلاح، وملاحقة كل الموارد المالية لدعم المقاومين وتجفيفها.
وفي نابلس، لم تنجح الضربات المتتالية الموجعة التي تعرّض لها تشكيل "عرين الأسود" وأسفرت عن استشهاد ثمانية من قادة وعناصر "العرين" منذ يوليو/ تموز الماضي، بطيّ صفحة "العرين" التي يسجل لها عمليات إطلاق نار على نقاط جيش الاحتلال، وحواجزه العسكرية وعلى المستوطنين بشكل دائم ومتزايد. بل إن هذه الضربات زادت من شعبية التشكيل العسكري غير المنظم، ورفعت أسهمه شعبياً، وبات الشارع ينتظر بيانات "العرين" على حسابه في تطبيق "تلغرام" باهتمام شديد.
بالتوازي مع الاحتلال، بذلت السلطة الفلسطينية وما زالت جهوداً كبيرة في تفكيك "العرين" بالترهيب عبر الاعتقال ومصادرة الأسلحة والتضييق عليهم بالحركة، أو الترغيب بالضغط عليهم وتقديم تسويات مالية وعقود توظيف. ووصل الأمر إلى قيام السلطة بشراء سلاح عدد من المقاومين بمبلغ يصل إلى 25 ألف دولار للبندقية الواحدة.
لكن مصادر قريبة من "العرين" تؤكد أن "من تمّ شراء أسلحتهم، باستثناء حالات أقل من أصابع اليد الواحدة، هم مسلحون محسوبون على السلطة وأجهزتها الأمنية، وجرى إغراق الشارع بهم، إلى أن تقوم السلطة بتسويات أمنية ومالية ليظهروا أن مسلحي العرين قد سلّموا أنفسهم، وهذا غير صحيح".
قامت السلطة بشراء سلاح عدد من مقاومي "العرين" بمبلغ يصل إلى 25 ألف دولار للبندقية الواحدة
وكانت الأجهزة الأمنية قد أطلقت النار على مقاومي "العرين" الذين شيّعوا محمد حرز الله (أبو حمدي) مساء 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فيما شهد المستشفى وجوداً مكثفاً للأمن الذي منع أي مظاهر مسلحة، وذلك وفق قرارات أمنية صارمة "بمنع أي جنازات مسلحة"، في إشارة إلى جنازات "شهداء العرين"، راغبة في ذلك بطي صفحة "الجنازات المسلّحة" التي يشارك فيها المقاومون.
ما يجري يذكّر بكيف بدأت الأمور حين أطلقت السلطة النار على جنازة الشهيد جميل كيّال من "كتائب شهداء الأقصى"، الذراع العسكرية لحركة "فتح"، في المدينة عام 2021. لكن في الأشهر التي تلتها حين كانت موجة المقاومة عالية، اضطرت السلطة إلى الخضوع للمزاج الشعبي وغضّ الطرف عن الجنازات المسلحة، بل وقدم مسؤولون رفيعون في السلطة العزاء بالشهداء، في محاولة لكسب ود الشارع، إلا أنه بعد استشهاد ثمانية من مقاومي "العرين" عادت السلطة إلى سياستها.
واستفزت الجنازات المسلّحة الرئيس محمود عباس، إذ قال في لقائه مع أقاليم "فتح" في جنين ونابلس والأجهزة الأمنية في نهاية نوفمبر الماضي: "إذا كان الشهداء أبناء فتح وجزء منهم يعمل هو أو والده في الأجهزة الأمنية أو السلطة، لماذا أشاهد رايات الجهاد وحماس في الجنازات؟"، بحسب مصدر فتحاوي تحدث لـ"العربي الجديد".
ويتابع المصدر الذي اشترط عدم ذكر اسمه: "لقد طالب الرئيس عباس بإنهاء حالة المقاومة بأسرع وقت ممكن، وطلب باستيعاب المقاومين بكل الطرق المتاحة؛ إما عبر التفريغ بوظائف، أو بشراء أسلحتهم، أو باتخاذ إجراءات أمنية".
ويقول المصدر ذاته إن "هناك أوامر باتخاذ إجراءات أمنية صارمة ضد أبناء حركة فتح المسلحين وعناصر الأمن القريبين منهم، وبالفعل في الأشهر الماضية تم اعتقال أكثر من 60 من عناصر الأمن داخل المقرات الأمنية". ويشير المصدر إلى أن عباس "هدّد قادة الأجهزة الأمنية قائلاً: "إذا كنتم لا تستطيعون القيام بواجبكم، استقيلوا".