إلى حدود ليلة السبت، وقبل ساعات قليلة من انطلاق عملية الاقتراع للانتخابات الرئاسية، صباح أمس الأحد، كانت بعض الدوائر الإعلامية والسياسية في تونس تتناقل أرقاما عن توقعات تؤكد أن المرشحين قيس سعيّد ونبيل القروي سيتصدران التصويت أمام كل منافسيهم، لكن كثيرين كانوا يكذّبون هذه التوقعات أو لا يرغبون في تصديقها.
ومع تقدم الانتخابات، عشية أمس الأحد، بدأت هذه الحقيقة تتأكد، إلى أن نشرت مؤسسة "سيغما كونساي" تأكيدها، ساعتين بعد إقفال مراكز الاقتراع، بشأن حصول المرشح سعيد على نسبة 19.5 من الأصوات، والمرشح نبيل القروي على 15.5.
نزل الخبر كالصاعقة على بقية المرشحين وأحزابهم ومناصريهم، لأن ما حدث كشف بوضوح أن هناك معطيات وتفاعلات اجتماعية وسياسية جديدة فرضت نفسها على مجرى الانتخابات، وطرحت حقائق جديدة للنقاش على طاولة المشهد التونسي، حتى أن البعض وصف ما جرى بـ"الزلزال السياسي" الذي هزّ كل "الثوابت"، وفرض على الجميع التفكير سريعا وعميقا في ما حدث، لأن هناك استحقاقا قريبا جدا على الأبواب هو الانتخابات التشريعية يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
وتؤكد الأرقام التي أعلنتها "سيغما كونساي" أن هناك عقابا جماعيا فرضته صناديق الاقتراع أمس، ليس على منظومة الحكم فقط، وإنما على أحزاب المعارضة أيضا، وطرحت بديلا كليا عن كامل المنظومة، فهي لم تقفز فقط بسعيد والقروي إلى تصدر المشهد في السباق الرئاسي، وإنما دفعت بأصوات جديدة إلى صدارة المشهد، فمنحت الكاتب الصحافي الصافي سعيد عدد الأصوات نفسها التي حصل عليها رئيس الحكومة يوسف الشاهد وحزبه بـ7.4 بالمائة، رغم الفارق الهائل في الإمكانيات بينهما، يليهما لطفي المرايحي بـ5.8 بالمائة، وسيف الدين مخلوف بـ4 بالمائة، فيما ألقت بالمعارضة التونسية وببقية الأسماء إلى آخر الترتيب.
وتظهر هذه النتائج أن الناخبين ذهبوا إلى مراكز الاقتراع بحثا عن أسماء جديدة من خارج المنظومة الحزبية التقليدية، رغم أن في هذا تفصيلات كثيرة، لأن القروي انتمى في السابق وينتمي إلى الآن إلى المنظومة الحزبية.
وقد نجح القروي في تسويق صورة عن نفسه أنه ضحية تتصارع مع المنظومة الحاكمة، وتنتصر للطبقات الفقيرة، علما أنه موقوف في السجن ولم يشارك في الحملة الانتخابية، لكن يبدو أنه لم يكن يحتاج لذلك، ولم تكن فئات المصوتين الجدد في حاجة إلى ذلك أيضا.
كما رفض قيس سعيد كل أشكال الدعاية التقليدية، ولم ينفق، في ما يظهر، جزءا بسيطا مما أنفقته المنظومة، وكان يتنقل في سيارته البسيطة، ما عزّز صورة الرجل المتعلم المستقيم المتعفف الذي لا تعنيه السلطة كثيرا.
وتظهر المعطيات التي كشفتها "سيغما كونساي" أن 40.8 بالمائة من المصوتين لنبيل القروي هم من الأميين الذين لم يرتادوا المدرسة يوما، فيما صوت 12.5% منهم لفائدة المرشح عبد الفتاح مورو، و7.6% من هذه الفئة نفسها صوتوا لفائدة قيس سعيد، و6.7% صوتوا ليوسف الشاهد، و5.6% لعبير موسي.
وبلغت نسبة الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لنبيل القروي من فئة التعليم الابتدائي الأساسي قرابة 29.1 بالمائة، و12.9% لفائدة عبد الفتاح مورو، و12.3% لفائدة قيس سعيد، و7.7% ليوسف الشاهد، و7.5 لفائدة عبد الكريم الزبيدي.
كما أظهرت "سيغما كونساي" أن أعلى نسب من الناخبين من ذوي المستوى الجامعي صوتوا لفائدة قيس سعيد بنسبة 24.7%، ويليه عبد الكريم الزبيدي بنسبة 12.1%، ثم 9.7% من الناخبين الجامعين لفائدة عبد الفتاح مورو، و7.9% لفائدة الصافي سعيد، و7.7% لفائدة يوسف الشاهد.
وأبرزت "سيغما كونساي" توزيعا جغرافيا بحسب الجهات والمحافظات بين المرشحين المتأهلين للدور الثاني، بينت تصويت الخزان الانتخابي للعاصمة تونس، وخصوصا محافظة منوبة، وكذلك محافظات الشمال والشمال الغربي (بنزرت، جندوبة وباجة وجزء من الكاف)، والجنوب الغربي (محافظة توزر)، لفائدة نبيل القروي، فيما تربع قيس سعيّد على خزان انتخابي واسع ضم محافظات الوسط والوسط الغربي والوسط الشرقي الساحلي والوطن القبلي.
وأظهرت نتائج المؤسسة توزيعا عمريا للناخبين، حيث أشارت إلى أن 37.0% من المصوتين للمرشح قيس سعيد راوحت أعمارهم بين 18 و25 سنة، و8.7 بالمائة من هذه الفئة صوتت للقروي، في حين بلغت نسبة المصوتين للمرشح نبيل القروي من الذين تجاوزت أعمارهم الـ60 سنة نسبة 25.4%.
وصوت 20.3 بالمائة من فئة 25 إلى 45 سنة لسعيد، بينما صوتت هذه الفئة بنسبة 13.3 للقروي. وبالنسبة لمن تعدوا سن الـ60 سنة، فقد كانت في غالبيتها للقروي بنسبة 25.4.
وبلغت نسبة الإناث من جملة المصوّتين للمرشح قيس سعيد 22.0 بالمائة، مقابل 18.0 بالمائة من الذكور. في حين بلغت نسبة الإناث من مجموع المصوّتين لنبيل القروي 20.4 بالمائة، مقابل 12.4 بالمائة من الذكور.
وتكشف الأرقام الأخرى عن أن 42.7 ممن صوتوا لـ"نداء تونس" في انتخابات 2014 صوتوا هذه المرة للقروي، و20.6 بالمائة منهم صوتوا لسعيد. وتكشف، كذلك، عن أن 14.5 ممن صوتوا لـ"النهضة" سابقا صوتوا للقروي، بينما صوت 15 بالمائة منهم لسعيد.
وبرزت فئة جديدة من المصوتين الذين لم يسبق لهم التصويت شاركوا بكثافة هذه المرة، إذ صوت 21 بالمائة منهم للقروي، بينما صوت 32.9 منهم لسعيد.
وتؤكد هذه الأرقام أن أكثر من 63 بالمائة من أصوات "النداء" ذهبت للقروي وسعيد، بينما افتكا معا من "النهضة" حوالي 30 بالمائة من أصواتها. وبالحديث عن بقية المرشحين يظهر أن حجم الأصوات التي خسرها هذان الحزبان كبير للغاية.
وتكشف بقية النتائج أنه لو اتفق الشاهد مع الزبيدي، مثلا، وقدما مرشحا عنهما، فسيحصل على أكثر من 16 بالمائة من الأصوات ويمر إلى الدور الثاني قبل القروي، وكذلك الشأن لو حصل أحدهما على اتفاق مع "النهضة" لكان مروره يسيرا إلى الدور الثاني، لكن الشاهد والزبيدي دخلا في معركة كسر عظام على الملأ، ودمّر كل منهما الآخر، فيما اختارت "النهضة" ألا تدعم أحدا من خارجها، وتتقدم بمرشحها عبد الفتاح مورو، الذي جاء ثالثا، غير أن "قصة "النهضة" مع الرئاسيات "تحتاج إلى مقاربة مغايرة"، بحسب مراقبين.
ويتساءل مراقبون عما إذا ما كانت هذه النتائج مفاجئة بالفعل، فقد نشرت المؤسسة نفسها، في يونيو/ حزيران الماضي، نتائج سبر آراء أظهرت تصدر نبيل القروي لنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية بـ23.8%، ليحتل قيس سعيد المرتبة الثانية بـ23.2%، تليهما عبير موسي في المرتبة الثالثة بـ10.8%، ويوسف الشاهد في المرتبة الرابعة بـ7.4%، فمحمد عبو، ثم المنصف المرزوقي، وكان ذلك طبعا قبل أن يعلن مورو والزبيدي عن ترشحهما، وهو ما يعني أن هذه الحقيقة كانت في متناول الجميع، ولم تكن مفاجئة كما تُصوّر الآن.