توزّعت رسائل حركة النهضة التونسية في الأيام الأخيرة في كل الاتجاهات، في سياق التحذير من أي مغامرة سياسية تودي نحو المجهول، مقدّمة نفسها قوة تعديل وتوازن في المشهد الجديد. وشملت رسائل قيادات النهضة الناخبين المتخوّفين من بروز خطابات جديدة غير متوازنة، فضلاً عن المرشح قيس سعيّد وبقية القوى السياسية. وتسعى النهضة للحدّ من هذه المخاوف، ولكنها ألمحت في الوقت نفسه إلى أنها الضامن الوحيد المطروح على الساحة، القادر على كبح جماح المغامرة السياسية، التي برزت خطاباتها على لسان بعض المرشحين للرئاسيات والتشريعيات. في السياق، دعا رئيس الحركة راشد الغنوشي، للاقتراع لفريقه في الانتخابات التشريعية يوم الأحد المقبل، باعتبارها قادرة على التعامل مع قيس سعيّد إذا فاز بالرئاسة وقادرة على عقلنة قوى الثورة، كما قامت في 2014 بعقلنة المنظومة القديمة، مؤكداً أن حركة النهضة تعمل على المحافظة على تونس كدولة الاعتدال والوسطية والثورة العاقلة. ونفى الغنوشي أن يكون للحركة مشروع لتغيير الدستور "بل هي تسعى لتطبيقه"، معتبراً أن الدستور الحالي لم يحظَ بالفرصة اللازمة لتجربته، ولا بد من فترة اختبار مهمة لتبيان ذلك.
وتأتي هذه الرسالة للغنوشي لتحدّ من مخاوف البعض بعد إعلان سعيّد عن مشروعه السياسي، الذي يقوم على تراتبية جديدة في تمثيل المواطنين تبدأ من المحلي إلى الجهوي فالمركزي، ما يتطلب تغييرات كبرى على الدستور. وأثار الأمر مخاوف كثيرة من إدخال الإرباك على الاستقرار السياسي الهش في تونس، مع كل ما يحمله ذلك من تهديدات على مستويات متعددة. ولكن الغنوشي وجّه رسالة للمتخوفين بأنه الأقدر على التعامل مع سعيّد، من دون توضيح معنى ذلك، في ظلّ غياب وجود علاقة سابقة بين الطرفين، على الرغم من دعم بعض ناخبي النهضة سعيّد في الدور الأول للرئاسيات في 15 سبتمبر/أيلول الماضي، وإعلان الحركة رسمياً دعمه في الدور الثاني. إلا أن ما يقصده الغنوشي هو التلميح لبعض التقارب في الأفكار بين الطرفين، وتقاطع مصالحهما.
وقال الغنوشي: "إذا لم تتمكن الحركة من تشكيل حكومة مع قوى الثورة والأحزاب التي لا تحوم حولها شبهات فساد فإنها ستكون في المعارضة"، مضيفاً أنه "ضد تكوين حكومة تكنوقراط لأنه يعتبر أن الأحزاب وجدت لتحكم". ولا يقطع الغنوشي تماماً مع إمكانية التحالف مع أحزاب من خارج الثورة، شرط أن تكون بعيدة عن شبهات الفساد، ولكنه يوجه في الوقت نفسه رسالة إلى بقية القوى وإلى المواطنين المتخوفين من تجدد خلاف الرئاسة والحكومة، كما حصل بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد.
وعبّرت النهضة عن "مخاوفها من حصول تصادم بين السلطة التنفيذية والتشريعية في صورة فوز قيس سعيّد بالرئاسية وقلب تونس لنبيل القروي الموقوف على ذمة القضاء، بالتشريعية، على اعتبار أن سعيّد يمثل قوى الثورة وأن هناك مخاوف من قلب تونس بسبب شبهات الفساد التي تحوم حول مرشحه". وشدّدت النهضة في مؤتمر صحافي على أن دورها في البرلمان العتيد كقوة لخلق التوازن والتوافق يبقى ضرورياً، مؤكدة أنها لن تتحالف مع حزب قلب تونس في البرلمان حتى لو فاز بالرئاسة، حينها ستكون النهضة ضمن المعارضة.
وذكر الغنوشي أن الحركة لن تتحالف مع حزب قلب تونس لا في الرئاسيات ولا في التشريعيات لأنها لا تتحالف مع قوى الفساد، مضيفاً أنهم سيواصلون الدفاع عن مبادئ الثورة. وأضاف أن الانتخابات الرئاسية أفرزت مرشحين اثنين والنهضة قررت مساندة المرشح قيس سعيّد لأنه الأقرب لقوى الثورة وتطلعات التونسيين، مضيفاً أن الانتخابات التشريعية ستفرز قوى جديدة والأرجح أن الحزبين الكبيرين سيكونان النهضة وقلب تونس. بالتالي سيكون هناك امتحان جديد وتحديات جديدة، والنهضة جاهزة للحكم من خلال نظافة مسؤوليها، وليست مستعدة للتحالف مع أي قوى تحوم حول مرشحها شبهات وفساد.
ونوّه إلى أن لديهم مخاوف من وقوع تصادم بفوز قوتين، قوى الثورة وقلب تونس، وهذا سيخلق تناقضات بين رأسي السلطة التنفيذية والتشريعية، لن تتحمله ديمقراطية ناشئة. فلو نجح سعيّد بالانتخابات الرئاسية والقروي على رأس الحكومة، فحينها يجب الحذر من هذا السيناريو. ودعا إلى اختيار النهضة لتكون على رأس السلطة التنفيذية لتمنع البلاد من الانحراف نحو الإقصاء ولا تمضي نحو المجهول.
ولكن كلام الغنوشي عن تحالفه مع نداء تونس على مضض، ولأنه كان مضطراً بحكم إفرازات الانتخاب وتداعياتها، استدعى توجيه انتقادات قوية من قيادات ندائية، اعتبرته تراجعاً وانقلاباً عن مواقفه السابقة بخصوص ذلك التحالف. وطرح في الوقت نفسه أسئلة حول دوافع هذه التغيرات الكبيرة في مواقف النهضة، وإن كانت انتخابية بحتة فرضتها نتائج الرئاسية وتوقعات سبر الآراء للانتخابات التشريعية، أم تعكس مراجعة عميقة وشاملة لخياراتها على مدى السنوات الماضية مع كل الظروف المحلية والإقليمية التي أحاطت بالبلاد هذه الفترة.
في الوقت عينه وجّهت "النهضة" رسالة واضحة لسعيّد بضرورة تبادل الدعم بين الفريقين، فقال رئيس مجلس شورى حركة "النهضة"، عبد الكريم الهاروني في مداخلة على قناة "الزيتونة" إنه "من مصلحة المرشح الرئاسي قيس سعيّد أن تكون الحركة قوية في البرلمان وتحقق نسبة هامة من المقاعد". وأكد أنه "من مصلحة النهضة أن يكون قيس سعيّد في الرئاسة ومن مصلحة سعيّد أن تكون النهضة قوية"، مضيفاً: "قواعدنا صوّتت لسعيّد في الرئاسية وستعود إلينا في التشريعية". وتابع الهاروني: "التيار الثوري سيكون مستفيداً ببقاء النهضة قوية في البرلمان". ويبدو أن النهضة أوضحت استراتيجية لتحالفاتها للفترة المقبلة، مع أن ذلك يبقى في حكم المجهول إلى حدّ الآن، لأن أحداً لا يعرف ما سيفرزه الصندوق في 6 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، فربما يفرض إكراهات جديدة كما حصل في عام 2014".
من جهته، أكد القيادي في حركة "النهضة" عبد الحميد الجلاصي، لـ"العربي الجديد"، أن "الأمر لا يتعلق بدعاية انتخابية ساذجة، فنحن حركة مسؤولة لا نلجأ إلى التخويف من أجل كسب انتخابي غير مضمون، ولكن دورنا أن ننبّه"، مضيفاً أنه "لا يمكن الحديث في تونس عن الثورة المضادة بالمضمون نفسه الذي يحصل في بلدان عربية أخرى، فالمسار الديمقراطي قطع أشواطاً جيدة في بلادنا"، لافتاً إلى أنه "يمكن الحديث عن قوى فوضوية أو شعبوية أو مغمورة أو غير ديمقراطية أو قليلة الخبرة".
وأكد أن التونسيين أرسلوا رسالة واضحة للطبقة السياسية بل لمجمل النظام النخبوي، وباتت البلاد الآن مفتوحة على مشهدين محتملين، إما مشهد برلمان مفتت غير قادر على إفراز أغلبية تحكم وتمضي بالبلاد إلى الإصلاحات التي طالب بها المواطنون بصراحة، مع علاقة غير واضحة مع رئيس الجمهورية، بما يفضي إلى مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والمؤسساتي، وإما إلى تصويت عقلاني يدعم مكسب التصويت الرئاسي ويفضي إلى كتل قادرة على التحالف والتغيير من خلال تشكيل حكومة مستقرة وقوية". ورأى أن "حركة النهضة ترى أن مصلحة البلاد واستمرار مسارها الديمقراطي في شوطه الجديد أي التنموي والاجتماعي إنما يحصل من خلال تغليب المشهد الثاني، وتضع نفسها ضمن هذا الأفق من أجل المصلحة الوطنية، وما عدا ذلك فالنهضة كحزب مستعدة للتفاعل مع كل الاحتمالات التي تفرضها نتائج الصندوق"، مضيفاً أن "المعارضة ليست عقوبة بل قد تكون فرصة لالتقاط الأنفاس واستخلاص الدروس وإجراء التعديلات التي تتطلبها الأوضاع".