ظلّ قانون تنظيم العمل الأهلي أسير مكتب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لنحو 6 أشهر، منذ إقراره من قبل مجلس النواب وحتى حصول السيسي على الضوء الأخضر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليصدره نهاية مايو/أيار الماضي، بعد فترة طويلة من تخوّف النظام المصري من ردود فعل أميركية وغربية قاسية أو ضاغطة على مصر، لتخفيف القيود الأمنية التي يتضمنها القانون الجديد، بغية تحديد ممارسات المنظمات الحقوقية والأهلية المصرية والأجنبية.
وعلى الرغم من دراسة البرلمان المطولة للقانون قبل إقراره، ثم بقائه في حوزة رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية لفترة طويلة يراها البعض مخالفة للدستور، إلاّ أنه صدر متضمناً عقبات قانونية أمام تنفيذ مشاريع يعوّل عليها السيسي لتحقيق أرباح مالية للحكومة وإنعاش الاقتصاد القومي، من خلال الدمج بين مؤسسات الحكومة ومنظمات المجتمع المدني الموالية للنظام والخاضعة لسيطرته.
في هذا السياق، كشف مصدر حكومي واسع الاطلاع لـ"العربي الجديد"، أن "وزيرة التضامن الاجتماعي، غادة والي، التي كانت تعارض الصيغة التي صدر عليها القانون بسبب تهميش دور الوزارة لصالح الجهات الأمنية في الرقابة على الجمعيات الأجنبية، طلبت من رئيس الوزراء إعادة النظر في بعض مواد القانون الذي ما زالت الحكومة تتداول في لائحته التنفيذية، لتعديلها، بما يسمح للجمعيات والمؤسسات الأهلية بالمشاركة في الشركات المساهمة التي أسستها الحكومة أخيراً تحت مسمى (المشروعات القومية للاستثمار والتنمية)".
ولمعرفة طبيعة "المشروعات القومية للاستثمار"، تجب العودة إلى الإجراءات التي اتخذها السيسي عقب توليه رئاسة الجمهورية، في يونيو/حزيران 2014، فبعدما أعلن بشكل منفرد عن تأسيس صندوق لجمع التبرعات من رجال الأعمال والمصارف والمواطنين هو "صندوق تحيا مصر"، والذي لم يُعرف نظامه المالي الداخلي حتى الآن ولا يخضع لرقابة أي جهة، أعلن السيسي بواسطة رئيس وزرائه آنذاك، إبراهيم محلب، عن إنشاء "شركة أيادي للاستثمار والتنمية" كشركة مساهمة مصرية مملوكة للحكومة، لكنها تخضع لقانون شركات المساهمة والتوصية بالأسهم رقم 159 لسنة 1981.
ولأن الإعلان كان سابقاً على التخطيط، كعادة مشروعات كثيرة أطلقها السيسي في تلك الفترة، استغرقت الحكومة أشهرا عدة لبلورة هيكل أولي لشركة "أيادي" لتسويقها لدى الرأي العام، كواحدة من إنجازات النظام الموعودة على صعيد الاستثمار والتنمية. فبادرت للاستعانة بالمصارف ذات الاحتياطي المالي الضخم، كمصرف الاستثمار القومي ومصرف الاستثمار العربي، وهيئات حكومية عدة كهيئة الأوقاف المصرية وشركة البريد المصري للاستثمار، وصندوق تحيا مصر، بالإضافة إلى جمعيات أهلية عدة، أبرزها "مؤسسة مصر الخير" الموالية للنظام الحاكم ويروّج لها كواحدة من أكبر مؤسسات العمل الخيري "غير الهادف للربح" في مصر، ويرأس مجلس أمنائها المفتي السابق علي جمعة، المعروف بتأييده المطلق للسيسي والذي عُين أخيراً عضواً في مجلس مكافحة الإرهاب.
وأعلنت الحكومة أن الهدف الرئيس من إنشاء هذه الشركة المساهمة هو الربط بين الحكومة وقطاع الأعمال العام والجمعيات الأهلية، للاستفادة من قدرات كل منها في إقامة مشروعات في مختلف المجالات الخدمية والصناعية والإنتاجية، خصوصاً في المدن الأكثر احتياجاً، لتوفير أكبر قدر من فرص العمل، وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
إلاّ أن الطبيعة التنافسية والربحية للشركة كانت ظاهرة منذ إعلان إنشائها؛ فأدلى أحد مؤسسيها وهو رئيس هيئة الاستثمار الأسبق، عاصم رجب، بتصريحات نصها أن "الشركة تهدف إلى الربح بالدرجة الأولى"، معتبراً أن هذا الربح هو الذي سيعينها على خلق الوظائف المستدامة وتحقيق العوائد الاقتصادية للجهات الحكومية والمؤسسات المساهمة بها.
وغابت "أيادي" عن المشهد تماماً منذ خروج الوزير أشرف العربي من الحكومة في فبراير/شباط الماضي، على إثر خلافات مع رئيس الوزراء، شريف إسماعيل، حتى عادت أخبارها للظهور الأسبوع الماضي، بتحرك جديد ضخم يهدف إلى تحقيق الربح أيضاً، مع إعلان وزير الاستثمار السابق، رئيس مجلس إدارة الشركة، أسامة صالح، أنها ساهمت مع شركتي "إن أي كابيتال" و"البريد للاستثمار" المملوكتين للحكومة أيضاً في إنشاء شركة تمويل إنتاجي ضخمة باسم "تمويلي" برأسمال أولي 50 مليون جنيه.
كما أعلن صالح أن "أيادي" ساهمت، في الفترة الماضية، في العديد من "الصناديق الحكومية" كشركة إنماء للتأجير التمويلي، و"بيريوس" للسياحة، وشركة التمويل متناهي الصغر، وصندوق الأصول الصناعية. وعكست خيارات الشركة وتحركاتها اتجاهاً حكومياً للسيطرة على أنشطة التمويل العقاري والإنتاجي والتي تحقق ربحية عالية على المدى الطويل، خصوصاً أنها ستعامل بصورة محترفة هادفة للربح مع شريحة أولى من الشركات الصناعية المتعثرة، تبلغ نحو 350 شركة. كما ستعمل على إعادة هيكلتها ودعمها مالياً وإدارياً مقابل مشاركتها في الأرباح بعد فترة محددة، لا سيما وأن الشركة أعلنت أنها "جزء من رؤية مصر الاقتصادية 2030" التي أعلنها السيسي العام الماضي.
ويبدو أنه قد غاب عن الحكومة ومستشاري السيسي القانونيين أن احتياجهم لأموال وإمكانيات الجمعيات الأهلية يتطلب تغييراً في البنية التشريعية، فحافظوا في القانون الجديد المنظم للعمل الأهلي على نفس نصوص قانون عام 2002، التي كانت تحظر ممارسة المؤسسات الأهلية لأي أنشطة ربحية أو المضاربة في سوق المال، ولم يفطنوا إلى اتجاه السيسي للاستفادة من تلك المؤسسات لتعظيم أرباح الحكومة.
فأقر البرلمان القانون الجديد ثم أصدره السيسي ناصاً على أنه "لا يجوز أن تهدف المؤسسات الأهلية إلى تحقيق الربح المادي لأي من مؤسسيها أو أعضاء مجالس أمنائها"، وأنه "يحظر استهداف تحقيق ربح لأعضاء الجمعية أو ممارسة نشاط ينصرف إلى ذلك"، وأن "العمل الأهلي هو كل عمل لا يهدف إلى الربح، وُيَمارس بغرض تنمية المجتمع"، وأنه "يمتنع على الجمعية في جميع الأحوال الدخول في مضاربات مالية".
وبناء على هذه النصوص ونظائرها في قانون 2002 أثار المستشارون القانونيون لوزيرة التضامن الاجتماعي شبهات في فتح الباب أمام الجمعيات الأهلية ومؤسسات العمل الخيري، للمساهمة في شركة "أيادي للاستثمار والتنمية" وغيرها من الشركات المساهمة الحكومية التي سيتم تأسيسها بشراكة بين القطاع الخاص والمجتمع المدني وجهات حكومية، لا سيما وأن مؤسسة "مصر الخير" ساهمت بالفعل في رأسمال الشركة المذكورة، وأن هناك اتجاها لإدخال مؤسسات أهلية أخرى.
وأكدت الفتوى أن "الجمعيات الأهلية بطبيعتها تهدف إلى المشاركة المجتمعية في تحقيق التنمية الشاملة التي ترتقي بحياة المواطنين صحياً وتعليمياً واجتماعياً وثقافياً، من خلال مشاريع منتجة في جميع مناحي الحياة، ومن ثم فإنه تطبق عليها المحظورات المنصوص عليها في قانون العمل الأهلي بحظر المضاربة والتربح والمشاركة في عمل مربح".
وكشفت الفتوى ارتكاب مؤسسة "مصر الخير" مخالفات سابقة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، خالطة بين العمل الخيري والربحي والمضاربة بالأسهم، حيث ساهمت في تأسيس شركتين عام 2009 إحداهما للتوزيع والتجارة والثانية لصناديق الاستثمار، وكلاهما شركة مساهمة مصرية، بالمخالفة لقانون العمل الأهلي الصادر عام 2002.
وأوضح مصدر حكومي أن الفتوى لم يتم تنفيذها حتى الآن، فلم تتخارج المؤسسة الخيرية من شركة "أيادي"، لكن العمل جار في الدوائر القانونية لمجلس الوزراء لإيجاد حل تشريعي، بإضافة استثناءات لقانون العمل الأهلي تسمح بإشراك المجتمع المدني المحلي في الشركات الحكومية للاستثمار، مما سيكون خروجاً عن المألوف أن يتم تعديل قانون لم يجف حبر كتابته، ولم تصدر لائحته التنفيذية.