"حدائق الشيطان" المصرية... 12 مليون لغم في العلَمين

24 يناير 2016
قبور الجنود في العلمين (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
لا شك في أن الجنرال الألماني الماكر إروين رومل، كان في قمة سعادته وهو يفخّخ الأراضي المصرية في منطقة العلمين، بين الإسكندرية ومطروح، بألغامه القاتلة أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، التي صنعها وسماها بـ"حدائق الشيطان"، وذلك في عام 1942. ولا يزال المصريون يعانون إلى اليوم من ضياع الحقوق الإنسانية والمادية والسياسية والتاريخية، بفضل مسلسل مستمر من إهمال القضية عبر التاريخ.

تصالح المتحاربون، وباتوا يقومون بزيارات سنوية لإحياء ذكرى جنودهم الذين ماتوا في منطقة العلمين وبلغ عددهم عشرين ألفاً، إذ توجد ثلاث مقابر بريطانية وألمانية وإيطالية، في حين لا يُحيي أحد ذكر ضحايا ألغامهم من المصريين الأبرياء المسالمين. وقد بلغ الترف بغربيين إلى حدّ التقدّم بمشروع استثماري في المنطقة، لعمل بانوراما لحرب العلمين، تشبه بانوراما حرب أكتوبر/تشرين الثاني 1973.

كانت مصر مسرحاً لمعارك دموية لا ناقة لها فيها ولا جمل، بين دول المحور والحلفاء، وفُرض عليها أن تعاني من ويلات تلك الحرب حتى بعد انتهائها، وتدفع فاتورة باهظة الثمن من أرضها الغنية بالثروات والفرص التنموية التي أُهملت خوفاً من الألغام. كما دفعت أثماناً باهظة بموت أبنائها أو إصابتهم بعاهات دائمة بسبب الألغام.

لم تكن دول المحور وحدها السبب في كثرة هذه الألغام في مصر، فحوالى عشر دول من الحلفاء والمحور وشركائهما، وحتى الاحتلال الإسرائيلي، شاركت في عمليات تفخيخ الأرض المصرية. وتشير تقارير إلى أنّ مساحة شاسعة من الألغام تبلغ 23 مليون لغم تتوزّع على الأراضي المصرية في الصحراء الغربية وسيناء، على مساحة تُقدّر بـ 2680 كيلومتراً مربعاً، وهو ما يقارب أربعة أضعاف مساحة الأراضي الملوّثة بالألغام في أفغانستان، زرعت منها قوات المحور نحو 17 مليون لغم، أشهرها تلك المعروفة باسم "حدائق الشيطان". وتذكر التقارير أن 75 في المائة من تلك الألغام تمثل ذخائر لم تنفجر بعد.

اقرأ أيضاً: "هيومن رايتس مونيتور": الاعتقال عقوبة التعبير عن الرأي بمصر 

طول فترة الإهمال يُمثّل وحده تهديداً كبيراً، إذ إن ثمّة تصريحات تُفيد بأن الألغام قابلة للتحرّك من أماكنها بسبب الرياح والسيول، بما يشكل خطورة مضاعفة على المناطق السكنية المجاورة. وهو ما يجعل الحصول على الخرائط الدقيقة للألغام أمراً غير ذي جدوى. ما يعني أن عدم الجدية المناسبة في حسم الأمر، تسبب في إهمال المنطقة وتأخر المشروعات التنموية.

أولى محاولات تطهير المنطقة من الألغام كانت على يد البريطانيين، فقد حاول القائد البريطاني برنارد مونتغومري، تسهيل انتقال قواته، وتجاوز الألغام، فقام بعمل ممرّاتٍ آمنة لقواته عبر تطهيرها من الألغام، بواسطة الأدوات اليدوية ومعاونة دبابات مجهّزة لتطهير الألغام المضادة للمركبات. لم تنجح هذه الفكرة بالصورة المأمولة، إذ إن ثمة ألغاماً للأفراد وُضعت بصورة شائكة مع ألغام المركبات، ولا يُمكن السيطرة عليها بسهولة. وعندما انتهت الحرب ارتدّ البريطانيون في سلام بعيداً عن تلك الحقول، وعاد رومل وقواته إلى ألمانيا، بعد أن تركوا هذا التذكار الدامي.

وكانت حكومات متعاقبة، منذ ثمانينيات القرن الماضي، قد أعلنت أنها بصدد التعريف بالمشكلة دولياً، والتفاوض حول إزالة الألغام. وتعددت الأحاديث، مرة حول مطالبة بريطانيا التي كانت مصر تحت حمايتها أثناء الحرب العالمية بالمعاونة في التطهير، ومرة حول مطالبة الدول التي زرعت الألغام بتحمل مسؤولياتها، وتقديم الخرائط وسجلات الحقول ومواقعها، ومرة حول المطالبات بدعم مادي لأن تكاليف إزالة الألغام باهظة ولا تستطيع مصر تحملها.

وفي كل مرة تتحدث الحكومات عن تقدّمٍ ملحوظ في القضية، وعن نجاحات باهرة في التعريف بها، وعن اقتراب عمليات التطهير، لا تزال الأخبار تطالعنا بموت شخص أو أكثر أو إصابتهم بصورة بالغة تأثراً باللغم، وعن ضياع مشروعات تنموية واعدة خشية الألغام.

لم تزد التصريحات الحكومية المتفائلة كثيراً في كل مرة عن كونها مسكّنات، تقوم بتصدير الوهم عبر تهوين الأزمة. لذا لا يتقبّل الرأي العام بسهولة تصريحاً مثل تصريح السفير فتحي الشاذلي، مدير الأمانة التنفيذية لإزالة الألغام وتنمية الساحل الشمالي بوزارة التعاون الدولي، الذي يشير إلى أن "تكلفة إزالة الألغام لنحو 175 ألف فدان بمنطقة العلمين، لا تزيد على 20 مليون دولار فقط، تشمل مساعدة وتأهيل وتوعية الضحايا". مع تأكيده بأن "هذا الملف سينتهي بشكل كامل بحلول عام 2017".

كل ذلك يطرح السؤال حول ما إذا كانت مهلة العام 2017 تكفي لإزالة الألغام من 175 ألف فدان، في ظلّ حصول مصر على منح عدة معظمها أجنبية، لإزالة ألغام تُقدّر بحوالى 18 مليون دولار: 5.13 ملايين دولار من الاتحاد الأوروبي، و1.8 مليون دولار من الوكالة الأميركية، أي أن "الأمور تسير في الطريق السليم جداً" وفقاً لمخطط الشاذلي. مع العلم أن الشاذلي يؤكد أن "مصر تسلّمت عام 2012 من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، جميع الخرائط الخاصة بالألغام".

هذه التكلفة الزهيدة التي أُعلن عنها، تناقض دراسة قدّمها شعبان أحمد سليمان، وعنوانها "حدائق الشيطان... رحلة البحث عن 100 مليون دولار تعويضاً لمصر"، ذكر فيها كيف نجحت الحكومة في حمل مؤتمر جنيف في يوليو/تموز 1995 على اعتماد الأرقام التي قدمتها، وقدّرت فيها حجم المشكلة. كما يناقض التقديران السابقان أيضاً، تصريحاً مثيراً للعميد أركان حرب، شامل إبراهيم، رئيس إدارة المهندسين العسكريين، بأن "تكلفة إزالة باقي الألغام تقدر بحوالى 200 مليون دولار". ويلفت إبراهيم إلى أن "ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا لم تُرسل خرائط واضحة، خصوصاً أن الألغام زُرعت بطريقة سريعة وعشوائية".

وفي تصريحات أخرى أكثر تفاؤلاً يذكر اللواء محروس الكيلاني مدير التخطيط والعمليات بالأمانة التنفيذية لإزالة الألغام وتنمية الساحل الشمالي الغربي بوزارة التعاون الدولي، أنه "لا توجد أية أزمة ألغام بمنطقة العلمين، لأن القوات المسلحة طهّرت نحو 100 ألف فدان من الألغام، من أجل عملية التنمية". على الرغم من أن الأرقام تشير إلى أن عدد الأفدنة الملغومة يصل إلى 630 ألف فدان، بمعدل 12 مليون لغم لم ينفجر بعد، أي ما يقارب 100 لغم لكل مواطن.

لعل عدم الثقة في تلك التصريحات وعدم التنسيق بين المعنيين بقضية إزالة الألغام، هي السر وراء مطالبة اللواء مجدي دياب، رئيس أول جمعية مصرية لخدمة المناطق المتضررة، الرئيس عبد الفتاح السيسي بـ"تغيير الأجهزة القائمة على إزالة الألغام بمنطقة العلمين". كما أنها وراء مطالبة حقوقيين مثل أستاذ القانون الدولي علي الغتيت، الذي يعتبر أن "مصر لها الحق في الحصول على تعويضات من بريطانيا، في قضية حقول الألغام الموجودة بمنطقة العلمين، وفقاً للقانون الدولي". عكس ما ذكره الشاذلي بأنه "لا توجد أي قوانين تلزم تلك الدول بتحمل نفقات إزالة الألغام سوى الالتزام الأدبي".

في الواقع، قامت القوات المسلحة بجهود كبيرة في هذا الصدد، وطهّرت آلاف الأفدنة من الألغام، غير أن المشكلة لا تزال أكبر من عنجهية التصريحات الإعلامية الواثقة، فالتضارب الواضح لا يختلف اليوم عما كان عليه الوضع سابقاً. وفي ظلّ هذا التناقض، لم يحمل الواقع تطوراً مناسباً للأزمة.

اقرأ أيضاً استراتيجية النظام المصري لوأد تظاهرات 25يناير: اعتقالات واستعانة بالسلفيين