استمع إلى الملخص
- المعارضة التونسية تعاني من صدمة بعد فوز الرئيس قيس سعيد غير المتوقع، مع تدهور اقتصادي واجتماعي وارتفاع البطالة والأسعار، مما يعقد الوضع السياسي.
- مراقبون يرون أن تونس لم تحقق أهداف الانتقال الديمقراطي، حيث تراجعت المكاسب السابقة ولم تقدم الشعبوية الحالية بديلاً ديمقراطياً أو اقتصادياً فعالاً.
يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، وسط تونس، أقدم الشاب النحيل محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده احتجاجاً على مصادرة شرطية عربته التي كان يبيع عليها الخضار، وصفعها له، بحسب الرواية. أشعلت نار البوعزيزي جمرة الاحتجاجات في المدينة، وسرت كالنار في الهشيم لتجتاح كل مدن ومناطق البلاد، وتدشن بداية تاريخ ثورات الربيع العربي.
إلى أسبوعين مضيا، كان كثيرون يعتقدون جازمين أن نار الثورات العربية قد خبت، وأن ذلك الربيع انتهى، وأن كل فكرة تحرر في المنطقة العربية تم وأدها، إلى أن شهدت سورية سقوط نظام كان من ألد أعداء الربيع العربي. لتعود الأسئلة من جديد حول جذوة الحرية العربية.
ويتساءل التونسيون اليوم ماذا بقي من شعار "شغل، حرية، كرامة وطنية"، وكيف يمكن وصف المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد، ماذا تحقق، وماذا أضاع التونسيون منه؟ نظرة عابرة على المشهد تذكر بكل بساطة بأن أهم قادة الأحزاب داخل السجون بتهم التآمر على أمن البلاد، تهم يمكن أن تؤدي إلى الإعدام، وأغلبهم ينتظر منذ عامين عرضه على محاكمة حتى يتأكد التونسيون من ثبات أو زيف هذه التهم.
واليوم، يصف مراقبون المشهد السياسي في تونس بـ"حالة وفاة سريرية"، و"موت السياسة"، ذلك أن أغلب فصائل المعارضة دخلت منذ انتخابات السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في حالة صمت مطبق.
ولم تنظم جبهة الخلاص المعارضة أي نشاط منذ الانتخابات ولم تصدر حتى أي بيان، باستثناء وقفة احتجاجية عابرة، الأسبوع الماضي، للمطالبة بإطلاق سراح المساجين السياسيين. وبالتوازي، لم تتحرّك الشبكة التونسية للحقوق والحريات منذ شهرين، باستثناء بيان لها، أمس الاثنين، تدعو فيه كافة القوى الوطنية والأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والمواطنين والمواطنات إلى المشاركة في الوقفة التضامنية التي ستُنظم يوم الثلاثاء 24 ديسمبر/ كانون الأول أمام المحكمة الابتدائية، بالتزامن مع جلسة التعقيب في القضية السياسية المعروفة بـ"التآمر على أمن الدولة".
وتأتي هذه الوقفة، بحسب البيان، "للتنديد باستمرار الاحتجاز التعسفي والقسري للمعتقلين السياسيين منذ 22 شهراً في ظل غياب أدنى معايير المحاكمة العادلة، وللتعبير عن الرفض القاطع لاستخدام القضاء وسيلةً لتصفية الخصوم السياسيين وقمع الحريات العامة"، كما تهدف إلى "المطالبة بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين فوراً ودون شروط، وإنهاء المحاكمات ذات الطابع السياسي، والتشديد على ضرورة احترام استقلالية القضاء وضمان حقوق الإنسان".
يعتبر مراقبون كثر أنّ المعارضة التونسية تدفع ثمن أخطائها، وهي لا تزال في حالة صدمة بعد نتائج الانتخابات الرئاسية التي حصل فيها الرئيس قيس سعيد على عدد من الأصوات لم تتوقعه المعارضة (حوالي مليونين و400 ألف صوت)، وكانت تمني النفس بهزيمته أو على الأقل بالمقاطعة.
ويرى آخرون أنّ كل النخبة السياسية في تونس، بما فيها السجناء، ضيّعت على البلاد فرصة الانتقال الديمقراطي، وخسرت بسبب خلافاتها فرصة بناء نموذج للمنطقة. وفي ظل هذا المشهد الرمادي، يُطرح السؤال بقوة حول المرحلة التاريخية التي وصلها مسار الانتقال في تونس.
ويعتبر رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان خالد شوكات أنّ "في أفق ذكرى اندلاع مسار الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2011، يمكن القول إنّ مسار الانتقال الديمقراطي في تونس بعد مرور 14 سنة ما زال بعيداً عن تحقيق الأهداف المرسومة له والآمال التي عُلّقت عليه من قبل عموم المواطنين". ويضيف شوكات في حديث لـ"العربي الجديد": "واقع الأمر أنّ التجارب المقارنة تحيل إلى نتائج مشابهة، فالانتقال الديمقراطي غالباً ما يحتاج فترة تراوح ما بين عقدين وثلاثة حتى يجني الناس ثماره، أي التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وبناء عليه يصعب القول إن التونسيين قد تتحقق مطالبهم وطموحاتهم قريباً، وفي تقديري فإن الأوضاع مقبلة خلال السنوات المقبلة على مزيد من التأزم المعيشي، عناوينه غلاء الأسعار وانهيار القدرة الشرائية وشيوع البطالة وانعدام الأمل".
ويوضح شوكات أنه "خلافاً للعشرية الأولى التي تمتّع خلالها المواطنون بمساحة واسعة من الحريات على جميع الأصعدة وفي جميع المجالات، فإن التونسيين خلال هذه الفترة سيكتشفون أنهم خسروا ما تحقق لهم من حريات دون أن يتحقق لهم بالمقابل أي منجز اقتصادي أو اجتماعي، فأوهام الحقبة الشعبوية ستتحطم الواحدة تلو الأخرى لأن إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء مسألة مستحيلة".
وعن المكاسب والخسارات التي حدثت في تونس منذ 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، يقول مؤسس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي عدنان منصر: "لو طُرح هذا السؤال قبل ثلاث سنوات لأجبت بأننا ربحنا الكثير من الحقوق، وعدداً من الممارسات المتجهة، رغم كل شيء، نحو نوع من ترسيخ الحقوق، لكن الجواب عن السؤال نفسه في ظروف اليوم يختلف بصفة جذرية". ويوضح منصر في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "ربحنا مؤسسات قادرة، برغم الكثير من النقائص الجوهرية، على تأسيس فضاء من الحريات والتنافس بين الفرقاء السياسيين تحت رقابة المجتمع المدني، لكن ذلك سرعان ما تهاوى منذ ثلاث سنوات، وبالتأكيد منذ 25 يوليو/ تموز 2021".
ويشير منصر إلى أنّ "النقد الذي كان بإمكاننا توجيهه للممارسة السياسية ولأداء المؤسسات والفرقاء، قبل 25 يوليو 2021، هو نقد جوهري يتعلّق بتسرب الممارسات الفاسدة للنموذج المطبق، ولتجاهل الفرقاء لالتزاماتهم الاجتماعية تجاه 17 ديسمبر. لكن تلك الممارسة وتلك السياسات لم تعد موجودة أصلا حتى نملك اليوم ترف توجيه أي نقد لها".
ويضيف "هناك مغالطة كبرى تتم منذ ثلاث سنوات، وهذه المغالطة تقوم على ادعاء استعادة الشعبوية التي تستفرد الآن بالحكم، لحظة 17 ديسمبر. أما على مستوى الوقائع، فإن الأمر لا يتعدى شعارات تستعملها الشعبوية لترسيخ سطوتها واستمرار سلطتها". ويتساءل منصر "أين تقع عملية الاستعادة تلك اليوم؟ في الخيارات الليبرالية التي لا تزال الشعبوية تسير فيها بالرغم من شعاراتها المعاكسة، والتي تزيد الفقراء تفقيراً؟ أم في عملية التدمير الممنهج للاقتصاد بداعي مكافحة الفساد وغيرها من طواحين الهواء؟".
ويؤكد منصر قائلاً: "كشفت الشعبوية منذ 25 يوليو هشاشة ما وقع بناؤه طيلة العشر سنوات السابقة عن ذلك التاريخ، هشاشة الحياة السياسية والمؤسسات والمجتمع المدني، وغربة الخيارات الديمقراطية عن المجتمع ونخبويتها. ولكن في مقابل الإطاحة بكل ذلك، هل يقع إصلاح الديمقراطية وتصويب السياسات الاجتماعية كما تدعي الشعبوية؟ لا بالتأكيد، وإنما يقع بناء نظام موغل في السلطوية وعاجز عن بناء أي شيء لفائدة الفئات الضعيفة التي يفترض أن الثورة قامت لتلبية حاجياتها".
ويختم منصر بالقول "في المحصلة لم نحتفظ بالديمقراطية، ولم نستطع بناء شيء بديل لها، ولا اتباع سياسة اجتماعية واقتصادية قادرة على تحقيق التنمية".