بدأ الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني، أمس الإثنين، زيارة تستمر ثلاثة أيام إلى الجزائر، هي الأولى من نوعها لرئيس موريتاني إلى هذا البلد منذ 12 عاماً، أي منذ عام 2009. ووصفت الرئاسة الجزائرية الزيارة بأنها "زيارة دولة" يبحث خلالها ولد الغزواني مع الرئيس عبد المجيد تبون ملفات سياسية واقتصادية.
لكن هذه الزيارة التي تتوّج تطوراً لافتاً للعلاقات السياسية والاقتصادية والتنسيق الأمني بين البلدين، تأتي أيضاً في ظرف سياسي يشهد توتراً في العلاقات الجزائرية المغربية، وغالباً ما تتجه الأنظار إلى موريتانيا ضمن هذا التوتر، بسبب أهمية موقفها الإقليمي، وكذلك في ما يتعلق أيضاً بالنزاع في قضية الصحراء.
وبعد سنوات غابت فيها نواكشوط عن ذهن صانع القرار السياسي في الجزائر، تأتي زيارة ولد الغزواني لتضع موريتانيا ضمن معادلة مهمة بالنسبة للجزائر، تتعلق بإعادة تأهيل جدية لعلاقاتها مع دول الجوار وصب الاهتمام الأول على تطوير العلاقات مع دول الطوق والعمق الاستراتيجي.
شهدت العلاقات بين الجزائر ونواكشوط قفزة كبيرة على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية
قفزة في علاقات الجزائر وموريتانيا
وإذا كانت هذه الزيارة تكرس نجاح الجزائر في تحقيق اختراق باتجاه العمق الجنوبي وإلى أفريقيا، بعد سنوات من الغياب، فإن العلاقات الجزائرية الموريتانية تبدو في الوقت الحالي، من أكثر العلاقات التي تتأسس على قواعد تضمن الاستدامة وتحفز على تطويرها، بسبب ارتكازها على البعد الاقتصادي الذي يضمن المصالحة المتبادلة للبلدين.
وتخطت العلاقات بين الجزائر وموريتانيا المحددات السياسية والتاريخية. فمنذ فتح المعبر الحدودي التجاري الذي يربط مدينتي تندوف جنوب الجزائر والزويرات شمال موريتانيا، في أغسطس/آب 2018، ودخوله حيز العمل بداية 2019، بلغ حجم الصادرات عبر هذا المعبر 15 مليون دولار.
كما تتدفق السلع الجزائرية بكثافة على الأسواق الموريتانية، ويتم العمل على توسيع المعبر البري الجزائري الموريتاني، وكذلك إنجاز الطريق الرابط بين مدينتي تندوف والزويرات، ونشر محطات الوقود والخدمات هناك، بهدف تسهيل التبادلات التجارية بين البلدين ومنها إلى باقي الدول الأفريقية.
وفي ظرف قصير، شهدت العلاقات بين الجزائر ونواكشوط قفزة كبيرة على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، في ظلّ اندفاع جزائري لافت نحو الدولة الجارة، ترجمته محطات عدة، أبرزها تشكيل لجنة حدودية مشتركة، وذلك للمرة الأولى، في إبريل/نيسان الماضي.
وتتولى هذه اللجنة وضع خطط تطوير المعابر البرية وتأمين الشريط الحدودي بين البلدين والذي يقدر بـ500 كيلومتر، وتنمية المناطق الحدودية وغيرها.
كما انبثق عن اجتماع جمع وزير الداخلية الجزائري كمال بلجود، ونظيره الموريتاني محمد سالم ولد مرزوق، في 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إنشاء لجنة أمنية تتولى التنسيق العملياتي في مجال أمن المناطق الحدودية ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وتهريب المخدرات، والتنقيب غير الشرعي عن الذهب والهجرة السرية.
كما تطورت العلاقات العسكرية بين الجيشين الجزائري والموريتاني، خصوصاً بعد زيارة وفد عسكري موريتاني بقيادة قائد الجيش، الفريق محمد ولد مكت، إلى الجزائر مطلع العام الحالي.
وقد تم الاتفاق خلال هذه الزيارة على إمكانية توريد قطع ومركبات من الصناعات العسكرية الجزائرية إلى موريتانيا، وكذلك تدريب قيادات من الجيش الموريتاني في المدارس العسكرية الجزائرية.
وسبق كل ذلك سلسلة زيارات لكبار المسؤولين الجزائريين إلى موريتانيا، بدءاً من زيارة وزير الشؤون الخارجية السابق، صبري بوقادوم، إلى نواكشوط في 10 مارس/آذار 2020، ثم الزيارة الأولى من نوعها التي ضمت أربعة وزراء جزائريين دفعة واحدة، إلى نواكشوط في يونيو/حزيران 2020، وهم وزراء الشؤون الخارجية صبري بوقادوم والمالية عبد الرحمن راوية والتجارة كمال زريق والصحة عبد الرحمن بن بوزيد.
في السياق، رأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة، جنوبي الجزائر، مبروك كاحي، أن زيارة الرئيس الموريتاني تمثل مؤشراً واضحاً على تطور العلاقات بين البلدين.
وقال في حديث مع "العربي الجديد"، إن "زيارة ولد الغزواني تتويج لتلك الزيارات المتبادلة بين البلدين؛ الدبلوماسية والوزارية والتي شملت قطاعات مختلفة".
وأوضح كاحي أن "زيارة قائد الجيش الموريتاني قبل أشهر للجزائر، إعلان واضح بأن العلاقات بين البلدين ارتقت من العلاقات الحسنة إلى العلاقات الممتازة".
ولفت إلى أن "هناك تطوراً كبيراً في مسألة التعامل الحدودي، ولا سيما بعد فتح المعبر الرابط بين تندوف والزويرات أمام الحركة المدنية والتجارية منذ أغسطس 2018، فضلاً عن فتح معابر صحراوية". واعتبر أن ذلك يعود للثقل الاقتصادي للصحراء الجزائرية، لا سيما الطفرة والوفرة الزراعية.
مبروك كاحي: ترغب الجزائر بإحداث نوع من التوازن في علاقاتها الإقليمية
وأشار المتحدث نفسه إلى أن "التطور الأخير للعلاقات الجزائرية الموريتانية، لا يأتي فقط بسبب رغبة من نواكشوط، بقدر ما هي أيضاً رغبة من الجزائر لإحداث نوع من التوازن في علاقاتها الإقليمية التي اختلت في المرحلة السابقة بفعل غيابها وتراخيها وانشغالها عن المنطقة في العقدين الماضيين".
وقال كاحي إن "هناك أيضاً توجهاً من موريتانيا نحو الجزائر لإحداث توازن في علاقاتها، لأن من مصلحتها تنويع الشركاء في المنطقة، وألا تصبح تحت رحمة المغرب".
تأثيرات توتر العلاقات المغربية الجزائرية
لكن الظرف السياسي والإقليمي الذي يتسم بتوتر العلاقات الجزائرية المغربية، يضع زيارة الرئيس الموريتاني ضمن سياق من الحسابات السياسية ذات الصلة بالخلافات الجزائرية المغربية، بسبب تأثيرات الموقف الموريتاني على الوضع في المنطقة، ولا سيما في ما يتعلق بالنزاع في منطقة الصحراء.
فنواكشوط تعترف بـ"جبهة البوليساريو" وتستقبل قياداتها بشكل منتظم، كان آخر هذه الاستقبالات لزعيم الجبهة إبراهيم غالي قبل أشهر، ما أثار حينها تحفظات مغربية. إضافة إلى أنّ معبر الكركرات الذي أثار أزمة بين الرباط و"البوليساريو" في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، يفتح على موريتانيا بالأساس.
لكن الجزائر التي تتفهم الوضع الإقليمي لموريتانيا وظروفها، وضرورات التوزان في علاقاتها مع الرباط أيضاً، لا تريد الضغط على نواكشوط لدفعها إلى اتخاذ أي موقف إزاء المغرب.
وعلى الرغم من أن الجزائر يمكنها السعي للاستفادة من فتور العلاقات المغربية الموريتانية، إلا أنها تبدو في الوقت نفسه مكتفية سياسياً بالموقف المتوازن لموريتانيا، وباعترافها بـ"جبهة البوليساريو" وقبولها التعاون مع الجزائر.
الجزائر لا تريد الضغط على موريتانيا لدفعها إلى اتخاذ أي موقف إزاء المغرب
تاريخ العلاقات الجزائرية الموريتانية
في تاريخ العلاقات الجزائرية الموريتانية محطات كثيرة يمكن أن تسهم بشكل أكبر في استعادة العلاقات الثنائية بصورة ناجعة وفعّالة تتقدم فيها المصالح الاقتصادية والسياسية المتبادلة.
وكان الرئيس الموريتاني الراحل مختار ولد داداه، قد أقر في مذكراته بأنّ الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، بذل جهوداً لإتمام انتساب موريتانيا إلى جامعة الدول العربية في قمة رؤساء الدول العربية التي انعقدت في الجزائر عام 1973.
وتعد أكبر مساعدة قدمتها الجزائر إلى موريتانيا، هي صك العملة الوطنية، الأوقية، والتي تمت في الجزائر، فضلاً عن إنشاء البنك المركزي الموريتاني. كما ساعدت الجزائر موريتانيا على تنفيذ قرار تأميم شركة مناجم الحديد في مدينتي نواذيبو والزويرات.
وقال ولد داداه في مذكراته "طلبت من الرئيس بومدين أمرين اثنين؛ الأول كان وضع قائمة بالإطارات الفنية الجزائرية التي يمكن أن تعوّض سريعاً الإطارات الفرنسية إن انسحبت فرنسا من تشغيل المناجم".
وتابع "الأمر الثاني هو من الناحية العسكرية، إذ قررنا وضع وحدات عسكرية جزائرية على الحدود بين البلدين في حالة تأهب قصوى، من دون أن نعلن عن سبب ذلك، وتكون هذه الفرق مستعدة للدخول إلى موريتانيا عند أول إشارة منا، ويكون الرئيس بومدين نفسه في منطقة تندوف يوم 28 نوفمبر 1974 في انتظار الإشارة للقيام بأي عملية ضرورية. وفي النهاية لم يصدر أي ردة فعل من فرنسا، ولم نكن في حاجة إلى تدخل الجزائر".