بعد مرور 47 عاماً على حرب أكتوبر/ تشرين الأول، التي فاجأت فيها مصر وسورية دولة الاحتلال الإسرائيلي في السادس من أكتوبر 1973، وتمكّن الجيش المصري من تحطيم خط بارليف (ساتر ترابي بنته إسرائيل على الضفة الشرقية لقناة السويس)، لا يزال السؤال الذي يؤرق دولة الاحتلال هو سبب "الفشل" الإسرائيلي في توقع الحرب، على الرغم من مؤشرات كثيرة لاقترابها، ولوجود استعدادات مصرية - سورية لها، فيما كانت شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" تصر في تقديراتها المختلفة على أن فرص واحتمالات إقدام أي من مصر أو سورية على فتح حرب ضد إسرائيل غير واقعية أو ضئيلة.
مع ذلك ولسنوات طويلة تقريباً، اكتفت إسرائيل في إلقاء المسؤولية عن الفشل في التنبؤ بالحرب، والاستعداد لها، على شعبة الاستخبارات العسكرية، وتحديداً الجنرال إيلي زعيرا، بفعل تجاهله وإهماله للتحذير الذي أرسله قبل اندلاع الحرب بيومين من أوروبا رئيس "الموساد" آنذاك تسفي زمير، بناءً على معلومات من مستشار الرئيس المصري آنذاك، وصهر الرئيس جمال عبد الناصر، أشرف مروان، الذي تُصر إسرائيل على أنها كانت قد جندته، فيما تقول الرواية الرسمية لمصر إنه كان يعمل بتنسيق تام، وأنه ضلل عملياً دولة الاحتلال.
اكتفت إسرائيل لسنوات بإلقاء المسؤولية عن الفشل في التنبؤ بالحرب على شعبة الاستخبارات العسكرية
وعلى مر السنوات الطويلة، كانت التقديرات والنتائج المعلنة للجنة التحقيق الرسمية التي شكلت بعد الحرب، وعُرفت باسم لجنة أغراناط (نسبة إلى رئيسها القاضي شمعون أغراناط)، أن الفشل الرئيسي كان نابعاً من عدم تقدير شعبة الاستخبارات لصحة المعلومة التي أرسلها أشرف مروان، وخطئها في تقدير احتمالات الحرب.
لكن معلومات جديدة ووثائق رسمية، تم الكشف عنها الخميس والجمعة، من أرشيف جيش الاحتلال، تُبيّن عملياً أنه كان هناك إنذاران مسبقان باحتمال نشوب الحرب على الأقل، والاثنان مصدرهما مصر: أشرف مروان، والثاني من ضابط مصري كشفت الوثائق الجديدة أنه كان قد تم تجنيده لصالح "الموساد"، أرسل هو الآخر من طرفه قبل اندلاع الحرب بأيام، وتحديداً في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول، برقية تحذر من نيّة مصر وسورية شن حرب على إسرائيل. لكن القيادات الأمنية لم تعالج هذه الرسالة كما يجب، وفق ما قال الجنرال العقيد احتياط حجاي مان لصحيفة "يسرائيل هيوم"، التي نشرت التحذير الذي أرسله الضابط المصري الذي أطلق عليه "الموساد" اسم "جولياط"، فيما أطلق على أشرف مروان في "الموساد" لقب "الملاك".
وإلى جانب هذين الانذارين الصريحين، فإن الوثائق الرسمية تبيّن أنه كانت أمام إسرائيل فرصة ثالثة، تم تضييعها، لتوقع اندلاع الحرب. وتتمثل الفرصة الثالثة باعتراض الوحدة 8200 للتجسس والاتصالات في ذلك الوقت، لبرقية سرية أرسلت من السفارة العراقية في موسكو، تمكّن جنود الوحدة 8200 من اعتراضها يوم الرابع من أكتوبر، أي يومين قبل اندلاع الحرب، تشير إلى معلومات عن بدء الخبراء الروس في سورية الاستعداد لمغادرتها مع أسرهم، وأنه تم إرسال طائرات روسية من طراز "إيليوشين" لهذا الغرض، فيما بدأت السفن الروسية بمغادرة الإسكندرية. لكن فك شيفرة الرسالة استمر حتى ثاني يوم (الخامس من أكتوبر).
وعلى الرغم من تلقيها في ساعات ما بعد الظهر من يوم الخامس من أكتوبر في الساعة 16:45 دقيقة، وفق الوثائق التي نُشر قسم منها أمس في "يديعوت أحرونوت"، إلا أن الجنرال إيلي زعيرا أرجأ تحويل البرقية ومضمونها لمدة 14 ساعة بعد تلقيها وسبع ساعات قبل بدء الهجوم المصري - السوري للجهات العليا، أي رئيسة الحكومة غولدا مئير، ورئيس الأركان الجنرال دافيد العازار، ووزير الأمن موشيه ديان، وهو ما كان له أثر كبير في تثبيت تقديرات شعبة الاستخبارات العسكرية بضعف احتمال اتجاه سورية ومصر إلى شن حرب على إسرائيل.
أبلغ الضابط المصري إسرائيل بأن الجيش المصري يعتزم إنزال قوات عند خطوط المعابر خلال يوم أو يومين
وكانت البرقية التي أرسلت من موسكو بعد حل شيفرة البرقية العراقية، قد صنفت بأنها عاجلة للغاية. وجاء فيها: "إن إخلاء السوفييت من مصر وسورية قد يكون مرتبطاً باستعدادات عربية للحرب. وقد قال مصدر في الاتحاد السوفييتي اعتماداً على خبر أكيد أن سلطات دمشق أجلت المستشارين السوفييت من سورية وأعادتهم للاتحاد السوفييتي جواً، مع عائلاتهم. وبحسب تلك المصادر السوفييتية، فقد برر السوريون الخطوة بادعاء عزمهم مع مصر على شن حرب ضد إسرائيل". وعقّبت شعبة الاستخبارات على الرسالة المذكورة بالقول: "على الرغم من أن الخط العام للأمور التي نُقلت للمصدر تعكس مجمل التحركات، ولكن ينبغي الأخذ بالحسبان وجود عدم دقة، قد يكون نابعاً من مصداقية التقرير ومن توجهات المصادر السوفييتية التي نقلت الخبر".
ومع أن الجنرال زعيرا ادعى في مكاتباته مع لجنة أغراناط أنه لا يذكر أنه طلب تأجيل نقل المعلومات للقيادة العليا، إلا أن الموقع يورد شهادة العقيد أريه شاليف، الذي وجه رسالة للجنة أكد فيها أن زعيرا طلب تأخير نقل ما جاء في الرسالة. ولم يكتف زعيرا بذلك، بل قال في رسالة ثانية للجنة إنه وإن كان لا يتنصل من مسؤوليته عن الخطأ في تقديراته لاحتمالات الحرب ودلالات هبوط الطائرات السوفييتية في مصر وسورية، إلا أن مسؤولية المستوى السياسي لا تقل عن مسؤوليته إن لم تكن أكبر منها، لأن المستوى السياسي كان هو الآخر شريكاً نشطاً في هذه التقديرات، مع أنه يملك كل المعلومات والوسائل والأدوات لأن يختار بنفسه تقديرات مغايرة، كما فعل رئيس أركان الجيش في إبريل/ نيسان 1973.
لكن إلى جانب هذه التحذيرات، فإن أهم ما كشفته الوثائق الجديدة عن الضابط المصري، أنه لم يكتف فقط بإرسال تحذير قبل الحرب بستة أيام، بل قيامه خلال اليوم السابع للحرب، الجمعة 12 أكتوبر في الساعة 14:30، في الوقت الذي كانت فيه قيادة الحكومة والجيش مجتمعة للبت في خيارات بدء عملية لاجتياز القناة إلى الضفة الغربية منها مساء السبت، بعد صد القوات السورية في الجولان، وفي أوج الجلسة عندما بدأ رئيس الأركان الجنرال دافيد العازار طرح فكرة طلب وقف إطلاق نار مع مصر، طُلب إلى رئيس "الموساد" تسفي زامير الرد على اتصال طارئ من مدير مكتبه، ليعود زامير لاحقاً وهو يعلن للحضور عن وصول "معلومة ذهبية" تؤكد أن الجيش المصري يعتزم إنزال قوات عند خطوط المعابر خلال يوم أو يومين، ما يعني ميدانياً نقل قوات المدرعات المصرية إلى تلك المناطق. وفوراً عقبت غولدا مئير على المعلومة بقولها: أفهم أن تسفيكا (تسفي زامير) حل لنا المسألة. ومن ثم صدر القرار بتعليق اجتياز القناة، وتوجيه الجيش الإسرائيلي لصد القوات المصرية ونصب الكمين لها ثم الانطلاق لاجتياز القناة. وبحسب الوثائق الإسرائيلية، فإن هذه المعلومة حولت مجرى الحرب كلياً.