بن غفير يستهدف مفوض الشرطة بالتسريبات: هل يسعى لنشر "حرسه الوطني" بين فلسطينيي الداخل بحجة مكافحة الجريمة؟
وثّقت المكالمة التي سرّبت، أمس الثلاثاء، عبر موقع (N12) الإسرائيلي، ما كان معروفًا ضمنًا من سياسة الشرطة الإسرائيلية إزاء ملف الجريمة في المجتمع الفلسطيني بالداخل. في المكالمة، كان وزير الأمن الداخلي، إيتمار بن غفير، يتحدّث إلى قائد الشرطة، يعقوب شبتاي، حول ارتفاع جرائم القتل داخل البلدات الفلسطينية، والتي تضاعفت منذ مطلع هذا العام إلى 43 قياسًا بـ23 خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، ليردّ عليه الأخير بأنه: "ليس ثمّة ما نفعله.. إنهم يقتلون بعضهم البعض، هذه عقلية العرب".
وبدلًا من التزام الصمت وترك الأمر في خانة التسريب، لا سيما أن المادة المنشورة لم تتضمن تسجيلًا صوتيًا وإنما تفريغًا مكتوبًا لمحتوى المكالمة، اتهم مكتب مفوض الشرطة الوزيرَ بن غفير صراحة بتسجيل المكالمة سرًّا وتسريبها، في إقرار ضمنيّ بمحتواها أوّلًا، وثانيًا في مؤشر على احتداد الصراع بين الطرفين على إدارة الملفات داخل الشرطة، علمًا أنها تتبع إداريًّا لوزير الأمن الداخلي.
مد الذراع الأمنية داخل البلدات الفلسطينية
ولم يكن بن غفير في وارد الدفاع عن الأمن المجتمعي لفلسطينيي الداخل، ومعالجة ملف الجريمة الذي يزهق، في كل عام، على مرأى ومسمع شرطة الاحتلال، مئات الأرواح من بين أبنائهم وبناتهم، لا سيما في جرائم الشرف؛ بل جاء حديثه في سياق الدفع بفكرة تأسيس مليشيا شبه عسكرية يسميها "حرسًا وطنيًّا"، تخضع لأوامره بشكل مباشر، وتتألف من خلايا شعبية تلقّت سابقًا تدريبات في الجيش.
وبالنظر إلى أن الفكرة سيقت ربطًا بملف فلسطينيي الداخل؛ ينبغي استحضار تصريحات سابقة لبن غفير أدلى بها هذا العام، وهدد فيها فلسطينيي أراضي عام 1948 بعملية "حارس الأسوار 2"، التي وجدت فيها دولة الاحتلال جبهة داخلية مشتعلة، إلى جانب الجبهة الحدودية في غزة، حينما هبّ فلسطينيو الداخل في مظاهرات عارمة، في رمضان قبل الفائت، تنديدًا بانتهاكات سلطات أمن الاحتلال المتواصلة في الأقصى. في ذلك الوقت، وجد فلسطينيو الداخل أنفسهم وجهًا لوجه ليس مع قوات الشرطة والجيش فحسب، بل أيضًا مع مليشيات مستوطنين من "فتية التلال" و"لافاميليا"، وهي المجموعات ذاتها التي ستشغل، على الأغلب، "أدوارًا أمنية رسمية" في "الحرس الوطني" لبن غفير.
وخلال مكالمته المسرّبة مع شبتاي، كان بن غفير يستخدم هذا الملف الرخو للدفاع عن فكرة المليشيا التي يسعى لتأسيسها، قائلًا: "جريمة قتل تلو الأخرى، نحتاج إلى حرس وطني قوي"، وفق مقتبَس كلامه. وبدا أن الأخير يحاول لي ذراع مفوّض الشرطة في هذه القضية، التي تتعمّد مصالح الأمن الإسرائيلية إهمالها منذ عقود، مذكّرًا إياه بـ"ما حدث في حارس الأسوار"، مردفًا: "اللحاف قصير، ومن ثم فنحن بحاجة إلى حرس وطني. إذا أظهرت الجدية (في هذا الملف)، فهو بيدك، وإن لم يكن، فسأمضي قدمًا"، في إشارة إلى أن الوزير المتطرف ينوي إحالة ملف الجريمة في الداخل على "الحرس الوطني" خاصته.
ويبدو أن بن غفير لا يزال مهجوسًا بما جرى خلال أحداث هبّة القدس في مايو/ أيار 2021، حينما وجدت إسرائيل نفسها أمام هبّة شعبية غير مسبوقة على اتساع عدّة بلدات في الداخل الفلسطيني، وبالذات في ما يسمّى "البلدات المختطلة" حيث يسكن مستوطنون يهود وبقية من ظلّ من أهل البلاد. ويبدو أن الوزير المستوطن يريد مدّ الذراع الأمنية الإسرائيلية إلى داخل البلدات الفلسطينية استباقًا لأي حراك مماثل، ومن ثمّ سيجد سكانها الأصليون أنفسهم أمام تهديد مضاعف: السلاح المنفلت والمليشيات الاستيطانية المنفلتة.
صراع الوزير وقائد الشرطة
وجاء ردّ فعل الشرطة الإسرائيلية غير مسبوق، إذ عبّر شبتاي، في بيان لمكتبه الثلاثاء، عن "صدمته" من أن الوزير بن غفير ومكتبه كانا يسجلان محادثات شخصية، زاعمًا أن المحادثة "أخرجت من سياقها". واليوم، زاد "مصدر كبير في الشرطة"، وفق تسمية "يديعوت أحرونوت"، على بيان مكتب شبتاي بالأمس، قائلًا للصحيفة إن التسريب "يمثّل ضررًا كبيرًا للأمن الداخلي لدولة إسرائيل"، وإن "مضمون الحديث يضر بشكل خطير بعلاقة الشرطة الإسرائيلية بـ(فلسطينيي الداخل)، وهم بالأساس معبأون بالشك وانعدام الثقة".
وبدا لافتًا أن الشرطة عمدت في ردّة فعلها إلى تأكيد ما كان غير مؤكد، والخروج بالخلافات الداخلية مع الوزير إلى العلن، في الوقت الذي التزم فيه بن غفير الصمت، حتى الآن. وبدا أن الشرطة، في بيانها بالأمس، وجدت في التسريب مبرّرًا لعدم مشاركة المعلومات الداخلية مع بن غفير، حين نصّت في بيانها بالحرف على أن "إمكانية تقديم التقارير للوزير أصبحت أمرًا مشكوكًا فيه، خوفًا من التسريبات والكشف عن مصادر سرية".
جهاز أمن برأسين
وتخرج هذه القضية، إجمالًا، صراع الإدارة والنفوذ بين قائد الشرطة ووزير الأمن الداخلي إلى العلن، بعدما ظلّت تتردّد مؤشراته منذ دخول بن غفير إلى الوزارة؛ ومنها ما نقلته صحيفة هآرتس"، في فبراير/شباط الماضي، من حديث لمصادر في جهاز إنفاذ القانون عن أن "التوتر بين الطرفين آخذ بالتصاعد ويوشك على الانفجار"، وسط خلافات بينهما على إدارة ملفات الهدم في القدس والأسرى في السجون؛ ثمّ ما ظهر من احتداد بين الاثنين حينما صرخ بن غفير في وجه شبتاي أمام الملأ في موقع عملية الدهس بمستوطنة "راموت"، واتهمه بالتلكؤ في الردع.
ويشي تضارب الصلاحيات هذا، فضلًا عن وقوف ذراعي الأمن الآخرين، "الشاباك وجيش الاحتلال، في صف شبتاي ضد بن غفير، حيث إن الأخير يشعر بأن مفاتيح الإدارة في الوزارة ليست بيده، وأن "الحرس الوطني" وحده قد يكون رهن إشارته. ويقتضي ذلك عمليًّا أن تصبح إدارة الجهاز الأمني في دولة الاحتلال برأسين؛ وتحذيرات قائد الشرطة، شبتاي، بالأمس، من أن "تأسيس الحرس الوطني يعني تفكيك مؤسسة الشرطة من الداخل" تضيف زخمًا إلى ذلك.