دخل المشهد الليبي حلقة جديدة من حلقات الصراع بين الأطراف السياسية بعد وصول العملية السياسية إلى انسداد بفشل كل المحاولات لرسم طريق نحو الانتخابات، لكن اللافت في الحلقة الجديدة أن عنوانها التدخل في السلطة القضائية.
وأدى 36 من مستشاري المحكمة العليا الجدد، اليوم الاثنين، اليمين أمام رئاسة مجلس النواب، في جلسة حضرها عدد من النواب في طبرق، فيما تغيب تسعة مستشارين عن الجلسة.
وكان مجلس النواب قد أصدر قراراً بإعادة تنظيم المحكمة العليا، قام بموجبه بتعيين 45 مستشارا بالمحكمة، الثلاثاء الماضي، وطالب المستشارين الجدد بأداء اليمين القانونية أمام رئاسة مجلس النواب، الأمر الذي رفضه رئيس المحكمة العليا محمد الحافي بسبب "المخالفات القانونية".
وجاء قرار مجلس النواب بشأن تعيين مستشاري المحكمة العليا الجدد بناء على تعديل أجري على قانون تشكيل المحكمة العليا، ويتضمن التعديل فصلا ينص على أداء مستشاري المحكمة اليمين أمام رئاسة مجلس النواب، بدلا من أداء اليمين أمام الجمعية العمومية للمحكمة العليا.
وأكد الحافي، في خطاب وجهه لمجلس النواب الأربعاء الماضي، أنه "لن يعتد بأي إجراء مخالف للقانون للحفاظ على هيبة واستقلال القضاء".
وأشار إلى أنه أرسل ثلاث خطابات سابقة لمجلس النواب يؤكد فيها أن "المحكمة لم تطلب أي تعديل لقانونها ولم تقم بإحالة أي خطاب رسمي لطلب تعيين مستشارين بالمحكمة".
وأكد أيضاً أن الجمعية العمومية للمحكمة قررت "عدم الاعتداد بأي قرار أو إجراء مخالف للقانون، وضرورة التشاور معها، صـونًا لاستقلال وهيبة مؤسسة المحكمة العليا والقضاء الليبي".
وبعد يومين من تعديل مجلس النواب قانون تشكيل المحكمة العليا، أصدرت المحكمة، الخميس، قرار تفعيل الدائرة الدستورية المعطلة منذ العام 2014، في خطوة تهدف على ما يبدو لفتح الطعون أمام تصديق مجلس النواب على تعديل قانون تشكيل المحكمة.
ورحب رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة وحزب العدالة والبناء الذي تنتمي إليه غالبية كبيرة من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، بقرار إعادة تفعيل الدائرة الدستورية.
وغرد الدبيبة قائلا "نبارك قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا بعودة تفعيل الدائرة الدستورية، لعلها تكون رادعا للتجاوزات التي تمارس من الأطراف والقرارات المخالفة للاتفاق السياسي باعتباره الوثيقة الدستورية الحاكمة للمرحلة، واستقلال القضاء ووجود دستور حاكم أساس لاستقرار البلاد".
وعلى الرغم من عدم تعليق مجلس النواب على قرار إعادة تفعيل الدائرة الدستورية، إلا أن عضو مجلس النواب المقرب من رئيسه عقيلة صالح عبد المنعم العرفي اعتبر القرار "غير قانوني".
وقال في تصريحات صحافية إن رئيس المحكمة الحافي "لا يحمل صفة رئيس المحكمة العليا بل هو ممثل قانوني يتولى تسيير مهام المحكمة إلى حين تعيين رئيس لها".
واتهم العرفي الدبيبة بالوقوف وراء هذا القرار، وقال "محمد الحافي لم يكن سيخرج بهذه التصريحات لولا دعم عبد الحميد الدبيبة له".
وتعليقاً على إجراءات مجلس النواب بشأن تعديل قانون تشكيل المحكمة العليا، اتهم الخبير القانوني ونائب رئيس المجلس الوطني الانتقالي السابق عبد الحفيظ غوقة مجلس النواب بــ"العبث بالدور التشريعي المناط به، وبدوافع لا تمت للمصلحة العامة التي يبتغيها أي تشريع".
وأوضح غوقة، في تدوينة علي حسابه على فيسبوك، أن قانون تشكيل المحكمة العليا لم يجر عليه تعديل منذ صدوره عام 1986، وأن تعديله الآن من مجلس النواب "هدفه تمرير قراره مثار الجدل بتعيين 45 عضوا بالمحكمة العليا وهو ما رفضته السلطة القضائية".
واعتبر أن الغرض من ذلك السيطرة على قرار تشكيل المحكمة بأداء اليمين أمام رئاسة المجلس بدلا من أن يكون اليمين أمام الجمعية العمومية للمحكمة العليا طبقا لقانون المحكمة الأصيل.
ومنذ فترة سعى مجلس النواب للتدخل في السلطة القضائية، من خلال قرار إعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء، الذي وزعت نصه وسائل إعلام مقربة من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأثار جدلا واسعا باعتبار أن انتشاره تزامن مع نظر المحاكم الليبية في الطعون المقدمة من المرشحين للانتخابات الرئاسية.
وكان نائب رئيس مجلس النواب فوزي النويري قد نفى أن يكون القرار قد صدر عن مجلس النواب، مؤكدا وقتها أنه سيشكل لجنة للتحقيق في صدوره ومن المسؤول عن توزيعه في ذلك التوقيت، لكنه تراجع عن تصريحاته دون أن يصدر من جانب مجلس النواب أي توضيح بشأنه.
وإثر انتشار نص قرار مجلس النواب، أعلن المجلس الأعلى للقضاء، في 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن اجتماع وفق قرار مجلس النواب القاضي بأن يكون رئيس المجلس الأعلى للقضاء نائب رئيس المحكمة العليا، وليس رئيس المحكمة العليا، فيما أعلن الحافي، رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس المحكمة العليا، عن رفضه للخطوة، وقال في تصريحات لــ"العربي الجديد" وقتها، إنه لم يسلّم رئاسة مجلس القضاء الأعلى لنائبه، موضحاً أنّ إصدار أي قانون يمسّ المؤسسة القضائية "يجب إشراك مجلس القضاء فيه".
وأكد قاسم القمودي، العضو القاضي بمجمع المحاكم بطرابلس، عدم قانونية إجراءات مجلس النواب بشأن تعديل قانون تشكيل المحكمة العليا، وقال متحدثا لــ"العربي الجديد"، إن "نص القانون في بعض مواده ينص على أن يجري أي تعديل على القانون بالتنسيق مع المؤسسة القضائية، ومجلس النواب كعادته ينفرد بالقرارات دون أي تشاور أو تنسيق مع أي جهة معنية".
وتابع "الخطوة تتمثل في أن مجلس النواب لم يعد جهة تشريعية بل طرف سياسي في خضم صراع، وهذا لا يحتاج لتوضيح، وكل ما يحدث أن مجلس النواب يستغل صفته التشريعية ويحاول اختراق آخر خطوط الدفاع عن السيادة الليبية وهو القضاء".
وعبر قاسم عن مخاوفه من مغبة جرف القضاء في أتون دوائر الصراع السياسي، مضيفا "سيتم الطعن في إجراء مجلس النواب بشأن تشكيل المحكمة العليا وأيضا المجلس الأعلى للقضاء، ولكن مجلس النواب استبق كل هذا وضرب المؤسسة القضائية من داخلها بأن قسّم مجلس القضاء والآن يقسم المحكمة العليا، وكل قسم لن يعتمد قرار الآخر في الوضع الحالي".
من جانبه، يعتبر المحلل السياسي أشرف قدورة أن ملامح دخول المؤسسة القضائية لدائرة الصراع أصبحت واضحة.
وأضاف أن تعيين مجلس النواب مستشارين لدى المحكمة العليا قوبل بالرفض من طرابلس، فيما جاءت خطوة الدائرة الدستورية بعد يومين من تعديل مجلس النواب قانون المحكمة العليا، وقال "لا يمكن فصل الاثنين بعضهما عن بعض، وإذا أضفنا ترحيب الدبيبة بقرار تفعيل الدائرة الدستورية واتهام العرفي للحافي رئيس المحكمة العليا بالانحياز والتأثر بالدبيبة هذا يعني أن القضاء بدأ بالمشاركة في الصراع السياسي فعليا".
ورصد قدورة تدخل المتصارعين في الساحة السياسية في المؤسسة القضائية، بالقول "مجلس النواب لم يجد نفعا من قرار إعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء لأن المجلس لا يملك صلاحيات القرار القضائي في الفصل في القضايا الكبرى، ولذا ترك مجلس القضاء واتجه للتدخل في المحكمة العليا من خلال زرع عشرات المستشارين كأعضاء في المحكمة للتحكم في قراره".
واعتبر أن خطوة تفعيل الدائرة الدستورية جاءت لهدم شرعية قرارات مجلس النواب بشأن القضاء.
ورجح المحلل السياسي أن تكون كل هذه المساعي قد أتت كخطوة استباقية لانتقال مقاليد الأمور في البلاد ليد السلطة القضائية، وقال إن "مجلس النواب يسعى للتموضع في كل شيء ويستغل صفته التشريعية في توجيه دفة الاتجاهات لصالحه"، مضيفا "كان من الممكن أن يتولى القضاء الفصل في الخلافات في المسار الدستوري وجمع الكلمة حول قاعدة دستورية للانتخابات، ولذا صوب مجلس النواب هدفه الآن في اتجاه القضاء".
وبحسب رأي قدورة، فإن آثار كل هذا "ستكون وخيمة فلم يقف الأمر عند الطعن في قرار مجلس النواب، بل سيطعن كل الأطراف بعضهم في بعض، ويفتح الباب أمام الطعن في قوانين الانتخابات، وفي خريطة طريق ملتقى الحوار السياسي، وربما اتفاق الصخيرات وكل شيء، وتعم الفوضى".