هل تنسحب أرمينيا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي؟

05 أكتوبر 2023
قادة دول منظمة الأمن الجماعي، موسكو 2022 (فرانس برس)
+ الخط -

بعد مصادقة الجمعية الوطنية (البرلمان) الأرميني على الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، في خطوة أغضبت الكرملين الذي اعتبرها قراراً خاطئاً، وفي ظل التوتر المتصاعد في العلاقات الروسية الأرمينية، والحديث عن أن موسكو تخّلت عن يريفان، برز الحديث عن إمكان الانسحاب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي. لكن وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان نفى وجود أي ضغوط غربية على بلاده من أجل الانسحاب من المنظمة. غير أنه شدد، في مؤتمر صحافي مع نظيرته الفرنسية كاثرين كولونا، أمس الأول الثلاثاء، على أن مسألة الانسحاب أو البقاء في المنظمة شأن داخلي تقرره بلاده.

وكان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، قد انتهز فرصة مصادقة البرلمان الأرميني على الانضمام للمحكمة الدولية، من أجل تذكير يريفان بأن" الغالبية في أرمينيا تدرك أن لا بديل على الإطلاق عن أدوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، مشدداً على أنه "ليس لدى الطرف الأرميني ما هو أفضل من هذه الآليات، نحن على ثقة بذلك".

في المقابل، قال رئيس لجنة الشؤون القانونية في البرلمان الأرميني يغيشه كيراكوسيان "نقوم بتوفير ضمانات إضافية لأرمينيا" في مواجهة أي تهديد محتمل لسلامة أراضيها من أذربيجان، مشيراً إلى أن المصادقة على نظام روما ستعني أن أي اجتياح مقبل لأراضي البلاد "سيكون (قضية) ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية"، وهو ما سيكون له "تأثير رادع" لأي طرف معادٍ.

وكانت أرمينيا قد وقّعت على نظام روما في العام 1999 من دون أن تصادق عليه، معللة ذلك في حينه بتعارض بعض بنوده مع دستورها. وعام 2021 عاودت أرمينيا طرح الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية لضمان أمنها ومحاكمة الأذربيجانيين في حال أي انتهاكات واعتداءات على الأراضي أو السكان، وحينها لم تنتقد موسكو التوجه الأرميني، ولكن الوضع تغير مع إصدار المحكمة مذكرة توقيف بحق الرئيس فلاديمير بوتين في مارس/آذار الماضي في قضية ترحيل الأطفال الأوكرانيين قسرا من المناطق التي سيطرت عليها روسيا.

تراجع الثقة بالتحالفات الأمنية مع روسيا

ومنذ خريف 2020 برزت أصوات في أرمينيا تقول إن روسيا تخلت عنها، ولم تف بالتزاماتها الأمنية مع أرمينيا ما تسبّب في خسارة الحرب مع أذربيجان. ومعلوم أن ميثاق منظمة معاهدة الأمن الجماعي يسمح في بنده الرابع بإرسال قوات عسكرية لمساعدة أي عضو في المنظمة للمحافظة على استقلاله ومحاربة هجمات الإرهاب الدولي، بناء على طلب رسمي، على أن تنسحب هذه القوات حين انتهاء مهمتها وفقاً لتقدير الدولة التي طلبت العون.

برزت أصوات في أرمينيا منذ 2020 تقول إن روسيا تخلت عنها، ولم تف بالتزاماتها الأمنية

وتأسست منظمة معاهدة الأمن الجماعي رسمياً في عام 2002، وتضم إلى جانب روسيا، كلاً من بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. ووفق المعاهدة لا يستطيع الموقّعون عليها الانضمام إلى تحالفات عسكرية أخرى، وأسست المنظمة قوة رد سريع قوامها 20 ألف جندي في 2009، وتعترف الأمم المتحدة بوحدة حفظ السلام التابعة له المكونة من 3600 عنصر. وفي خريف 2020 قالت روسيا إن ميثاق المنظمة لا يخوّلها التدخل إلى جانب أرمينيا في حربها مع أذربيجان، ما لم تطاول الضربات الأراضي الأرمينية، وأشارت حينها إلى أن المعارك تدور حول إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه والذي يعود لأذربيجان وفق القانون الدولي.

وتعالت الأصوات الداعية لانسحاب أرمينيا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي بعد الخسارة المؤلمة لإقليم كاراباخ نتيجة الهجوم الأذربيجاني السريع في 19 سبتمبر/ أيلول الماضي، وحل جمهورية "أرتساخ" المعلنة من جانب واحد ورحيل الغالبية العظمى من سكان الإقليم إلى أرمينيا.

قلق روسي من تبعات إضافية

وعلى الرغم من خطورة انضمام أرمينيا إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يزيد عزلة بوتين، الذي اضطر إلى عدم حضور قمة "بريكس" الأخيرة في جنوب أفريقيا، في وقت تسعى فيه موسكو إلى بناء عالم متعدد الأقطاب تلعب فيه دوراً قيادياً، فإن تصريحات بيسكوف والنقاشات العامة في موسكو في الشهرين الأخيرين تكشف أن قلق موسكو ينطلق من إمكانية انسحاب أرمينيا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومؤسسات أخرى مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ورابطة الدول المستقلة. هذا الأمر سيقوّض جهود الكرملين الحثيثة منذ قرابة 20 عاماً لإنشاء بنيان اقتصادي وأمني موحد في الفضاء السوفييتي السابق يخفف من التدخلات الغربية في "حدائق روسيا الخلفية" أو الوصول إلى "خاصرتها الرخوة" في القوقاز الروسي.

تتخوف موسكو من تقويض جهودها الحثيثة منذ قرابة 20 عاماً لإنشاء بنيان اقتصادي وأمني موحد في الفضاء السوفييتي السابق

كما أن الخروج الأرميني يفتح المجال أمام بلدان أخرى للانسحاب من هذه المنظمات الإقليمية تجنباً للدخول في صراع مباشر مع الغرب ضمن جبهة روسيا التي تولي جل جهدها للحرب في أوكرانيا وتداعياتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، ما أضعف تركيزها وإمكاناتها في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى.

كما تخشى موسكو زيادة النفوذ التركي في جنوب القوقاز في حال تم استبعادها عن الإشراف على ممر زانغيزور الرابط بين مقاطعة ناخيشفان والأراضي الأساسية لأذربيجان عبر أراضي أرمينيا، ما يمنح أنقرة طريقاً مباشراً إلى الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى.

ويوم الاثنين الماضي قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن "تصريحات أرمينيا بشأن الانسحاب المحتمل من منظمة معاهدة الأمن الجماعي هي خيار سيادي"، معرباً عن أمله في أن يبقى التواصل بين البلدين قائماً. وجاءت تصريحات لافروف رداً على دعوة المشاركين في منتدى الاستقلال في أرمينيا، سلطات بلادهم، يوم الأحد الماضي، إلى البدء في عملية مغادرة منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ورابطة الدول المستقلة، وكذلك التقدم بطلب للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي.

اللافت أن تصريحات لافروف كانت أقل حدة من بيان سابق لوزارة الخارجية الروسية في 25 سبتمبر الماضي رداً على تصريحات رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان قال فيها إن "الهجمات التي نفذتها أذربيجان على أرمينيا في السنوات الأخيرة تسمح لنا بالتوصل إلى نتيجة واضحة مفادها أن الهياكل الأمنية الخارجية التي نشارك فيها غير فعالة من وجهة نظر مصالح الدولة وأمن أرمينيا".

حينها قالت الخارجية الروسية في بيان إن تصريحات باشينيان تنطوي على هجمات غير مقبولة ومرفوضة ضد موسكو، ورأت أن باشينيان يتعمد إعداد البلاد للابتعاد عن روسيا لصالح الغرب. كما اتهمته بأنه "يحاول التنصل من المسؤولية عن الإخفاقات في السياسة الداخلية والخارجية، وتحويل اللوم إلى موسكو". وخلصت إلى أن قيادة أرمينيا تنساق وراء الغرب بهدف إلحاق الضرر بروسيا، وأنها تجعل نفسها رهينة للألعاب الجيوسياسية للدول الغربية.

هل تنسحب أرمينيا من منظمة الأمن الجماعي؟

على الرغم من الانتقادات الحادة لدور روسيا منذ بداية الحرب خريف 2020، وتحميلها المسؤولية عن هزيمة كاراباخ من قبل القيادات الأرمينية الحالية، فإن احتمال انسحاب يريفان من منظمة معاهدة الأمن الجماعي ليس كبيراً على الأرجح. ويدرك باشينيان أن روسيا تملك أدوات كبيرة لمحاربته داخل أرمينيا باستخدام الأحزاب والشخصيات المقربة منها، أو عبر الجالية الأرمينية الكبيرة في موسكو، والتي ذكر بيسكوف في الشهر الماضي بأن عدد الأرمن من حاملي الجنسية الروسية أكبر من عدد سكان أرمينيا.

يدرك باشينيان أن روسيا تملك أدوات كبيرة لمحاربته داخل أرمينيا باستخدام الأحزاب والشخصيات المقربة منها

وفي حال قرر باشينيان الانسحاب من المنظمة فإن روسيا ستعمل على مراجعة كاملة للعلاقات الثنائية مع أرمينيا، ومن المؤكد أن الأخيرة غير مستعدة لتحمل التكلفة الباهظة لهذا القرار. وتكفي الإشارة إلى أن روسيا هي الشريك التجاري الأول لأرمينيا بفارق كبير عن باقي بلدان العالم الأخرى.

وفي 4 أغسطس/آب الماضي، قال دينيس غونتشار، مدير الإدارة الرابعة لدول رابطة الدول المستقلة بوزارة الخارجية الروسية، إن حجم التجارة بين أرمينيا وروسيا في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار 2023 ارتفع بنسبة 86 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022. وزادت الصادرات من أرمينيا إلى روسيا بنسبة قياسية بلغت 3.3 مرات. وأشار غونتشار إلى أن حجم التجارة البينية بين البلدين في 2022 حطم جميع الأرقام القياسية، حيث وصل إلى 5 مليارات دولار.

واستفادت أرمينيا مع العقوبات الغربية المفروضة على روسيا وباتت قناة مهمة للالتفاف على العقوبات عبر "الاستيراد الموازي"، كما انتعشت المصارف الأرمينية. وعلى الرغم من أن أرمينيا ليست منتجاً للسيارات فقد أشارت صحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن صادرات السيارات من أرمينيا إلى روسيا ارتفعت العام الماضي 225 مرة في 2022 مقارنة بعام 2021. وارتفع حجم الاقتصاد الأرميني في 2022 بنحو 13 في المائة أي ضعف النمو في 2021.

وفي 7 يونيو/حزيران الماضي، أفاد رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين بأن حجم التجارة بين روسيا وأرمينيا عام 2022 ارتفع بنسبة 96 في المائة ليصل إلى 140 مليار روبل (نحو مليار و400 مليون دولار). ونتيجة لذلك، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لأرمينيا بنسبة قياسية بلغت 13 في المائة على مدار العام، أي أكثر من ضعف الرقم المسجل في عام 2021.

من جهة أخرى، وعلى الرغم من تكثيف الاتصالات بين روسيا والغرب، يكشف حجم المساعدات الأميركية (11.5 مليون دولار) والأوروبية (5.2 ملايين) دولار لإيواء قرابة 100 ألف من نازحي كاراباخ، أن الغرب لا يشكل بديلاً اقتصادياً بأي حال عن روسيا، كما أن تجارب البلدان السوفييتية والشرقية السابقة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي غير مشجعة، ويضاف إليها أن أرمينيا مجبرة على بناء علاقات مع جيرانها نظراً لموقعها الجغرافي الحبيس.

ومن الناحية السياسية، فإن تبعات انسحاب أرمينيا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وأهمها تراجع مستوى العلاقات السياسية مع روسيا، يجعلها وحيدة في المفاوضات مع تركيا وأذربيجان في التوصل إلى اتفاق سلام نهائي، ما يعني أنها ستقبل بجميع الشروط المطروحة على الطاولة.

لن تكون أبواب حلف الأطلسي مفتوحة أمام أرمينيا في حال انسحابها من منظمة الأمن الجماعي

ومع ضعف القدرات الدفاعية لأرمينيا فإنها بحاجة إلى دعم خارجي، ولكن في حال خروجها من منظمة معاهدة الأمن الجماعي فإن أبواب حلف شمال الأطلسي (الناتو) لن تكون مفتوحة لها مع فيتو تركيا على العضوية، ولهذا فإن يريفان ستفكر أكثر من مرة في الخروج من المنظمة الأمنية على أمل تدخّل روسيا في حال قيام أذربيجان بأي اعتداء على أراضيها.

ومع الغضب الشعبي ضد باشينيان، فإن ضمانات بقائه في السلطة تنطلق من عدم الثقة الشعبية بالمعارضة المشكلة من الحكومات السابقة والتي إما تابعة لروسيا أو لاحقتها فضائح الفساد، ويبدو أنه سيواصل "الجلوس على كرسيين" على الرغم من مطالبات الغرب وروسيا له بحسم موقفه من العلاقة مع روسيا.

المساهمون