يعكس اضطرار رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، نفتالي بينت، لإلغاء "زيارة إلى مركز التطعيم" في مدينة أم الفحم، أمس الجمعة، تحسباً من اندلاع تظاهرات مناهضة له، وخوفاً من عدم تمكّن الأجهزة الأمنية من تأمين الزيارة التي كانت مقررة بمرافقة عضو الكنيست منصور عباس، بسبب تصادفها مع الذكرى الحادية والعشرين لهبّة القدس والأقصى، يعكس رسوخ الذكرى الوطنية الجماهيرية لسقوط 13 شهيداً ضمن هذه الهبة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، في وجدان الأوساط الشعبية والجماهيرية للفلسطينيين في الداخل. يأتي ذلك على الرغم من مراوغة رجال السياسة والأطر الحزبية المختلفة، واكتفائها في السنوات الأخيرة بمراسم تقليدية لإحياء هذه الذكرى، تبدأ بزيارات محلية لأضرحة الشهداء، وتنتهي، كما هذا العام، في الرابعة من بعد ظهر اليوم السبت، بمسيرة مركزية في مدينة سخنين في الجليل.
بينت اضطر لإلغاء الزيارة تحت تهديد اللجنة الشعبية في مدينة أم الفحم
والواقع أن بينت اضطر لإلغاء الزيارة تحت تهديد اللجنة الشعبية في مدينة أم الفحم (المدينة التي قدمت ضحايا وشهداء ليس فقط في هبّة القدس والأقصى التي اندلعت في الداخل الفلسطيني في أكتوبر 2000، بل بعد ذلك في مناسبات مختلفة) بالتظاهر أمام مقر المركز الصحي الذي كان يفترض أن يصل إليه رئيس حكومة الاحتلال. وهو ما جعل أجهزة الأمن والشرطة (جهاز المخابرات العامة، الشاباك) تتخذ القرار بإلغاء الزيارة، لإدراكها على ما يبدو أن هذه الزيارة في ظل حشد شعبي ضد وجود بينت، من شأنها أن تفجر الأوضاع في المدينة، وقد تجر إلى اندلاع هبّة جديدة في الداخل الفلسطيني، في حال وقعت مواجهات في المدينة على خلفية معارضة الزيارة، خصوصاً أن اللجنة الشعبية في المدينة عنونت دعوتها للتظاهر ضد رئيس حكومة الاحتلال بعبارة "لا لمجرمي الحرب".
ويعني هذا في ظل تردي الأوضاع السياسية في الداخل الفلسطيني، وخصوصاً ما يبدو أنه تراجع في مواقف الأحزاب السياسية، ولا سيما تلك المشاركة في الكنيست، أن نبض الشارع في الداخل الفلسطيني بات سابقاً لحسابات ومواقف الأحزاب الممثلة في الكنيست، سواء تلك المشاركة في الائتلاف الحكومي (الحركة الإسلامية الجنوبية ضمن القائمة الموحدة)، أو الأحزاب المنضوية تحت راية القائمة المشتركة التي يقودها أيمن العودة والمشكّلة من أحزاب الجبهة الديمقراطية والحزب الشيوعي الإسرائيلي، والحركة العربية للتغيير بقيادة أحمد طيبي. بالإضافة إلى التجمع الوطني الذي يمثله في الكنيست سامي أبو شحادة، وإن كان الأخير، يحمل مواقف مغايرة تميزه عن شركائه في "القائمة المشتركة" لجهة تبني خطاب قومي ووطني فلسطيني بامتياز، بعيداً عن خطاب التأثير والتغيير الذي يواجه في الأعوام الأخيرة باقي الأحزاب الممثلة في الكنيست.
في المقابل، فإنه لا يمكن إغفال التحولات في الداخل الفلسطيني، مع إحياء الذكرى الحادية والعشرين لهبّة القدس والأقصى (المعروفة أيضاً باسم هبّة أكتوبر). وعلى رأس هذه التحولات في العقد الأخير، اعتماد الأحزاب الفاعلة سياسات "اختراق المجتمع الإسرائيلي ومحاولة التأثير على الحكومات الإسرائيلية من الداخل"، وهو نهج تعزز بشكل لافت للنظر بعد تشكيل القائمة المشتركة في العام 2015، ولقي تأييداً ضمنياً من القيادة في السلطة الفلسطينية بداية، ثم علنياً خلال العامين الأخيرين، عندما لعبت السلطة دوراً فاعلاً في الضغط على مختلف الأحزاب المشاركة في الكنيست للتوصية بالجنرال بني غانتس لتشكيل الحكومة، بداية، ثم للتوصية بيئير لبيد في الانتخابات الأخيرة التي جرت في مارس/آذار من العام الحالي.
نبض الشارع في الداخل الفلسطيني بات يسبق حسابات ومواقف الأحزاب الممثلة في الكنيست
كان ذلك التحول، في ظل تراجع الهيبة والبعد القومي والوطني للأحزاب السياسية البرلمانية، وخفض سقف خطابها، خصوصاً في ظل سياسة الملاحقة والتضييق التي اعتمدتها الحكومات الإسرائيلية منذ هبّة القدس والأقصى عام 2000 ضد الحركات الرئيسية الثلاث التي حددتها هذه الحكومات كأحزاب وحركات "مشاكسة" و"أساس البلاء" في علاقتها مع المجتمع الفلسطيني في الداخل، بدءاً بحزب "التجمع الوطني الديمقراطي"، الذي لاحقت السلطات الإسرائيلية رموزه وأعضاءه وأثّرت بذلك على أدائه الحزبي والسياسي.
الحركة الثانية الرئيسية هي "الحركة الإسلامية الشمالية" بقيادة الشيخ رائد صلاح، المعروفة بنشاطاتها ومهرجاناتها السنوية ضد أي تقسيم زماني أو مكاني في الأقصى ولا سيما مؤتمرها السنوي "الأقصى في خطر"، وحركات المرابطين والمرابطات في الأقصى. وقد حلت حكومات الاحتلال هذه المعضلة التي كانت تواجهها، عبر قرارها الرسمي عام 2015 بحظر الحركة الإسلامية وإغلاق جمعياتها ومؤسساتها المختلفة، وتلفيق ملفات أمنية متلاحقة زجت من خلالها بالشيخ رائد صلاح وعدد من رموز الحركة بالسجن لفترات مختلفة ومتواصلة.
وأخيراً، واصلت السلطات الإسرائيلية ملاحقة حركة "أبناء البلد"، وهي على غرار الحركة الإسلامية الشمالية، حركة سياسية لا تشارك في الانتخابات في إسرائيل. وتعرّض أمناء الحركة، مثل رجا إغبارية ومحمد الأسعد، إلى الاعتقال في أكثر من مرة وأكثر من مناسبة.
لا يمكن إغفال التحولات في الداخل الفلسطيني
هذه السياسات أدت في نهاية المطاف إلى إضعاف الخطاب الرسمي للأحزاب السياسية، خصوصاً في العامين الأخيرين، إلا أن ذلك لم ينعكس على النبض العام للجماهير الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، التي باتت عند كل مفترق أو حدث جلل، تسبق الأحزاب السياسية المشاركة في انتخابات الكنيست، سواء في القائمة المشتركة أو القائمة العربية الموحدة. وهو ما انعكس جلياً في ما بات يطلق عليه في الداخل "هبّة الكرامة"، في إشارة إلى المواجهات والهبّة التي اندلعت في الداخل، ضد تكثيف حملات المستوطنين ضد أهالي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، وخلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة.
وتأتي الذكرى الحادية والعشرون لهبّة القدس والأقصى، في وقت تبدو فيه الأحزاب العربية منشغلة بسياسة المناكفة والبحث عن "إنجازات" يومية، وسط اشتداد الخلافات الداخلية التي جسدها الانشقاق داخل القائمة المشتركة من جهة، والتنافس على الفتات من ميزانيات تعد بها حكومة الاحتلال، بينما يعيد كل اشتعال لحدث فلسطيني تأكيد نبض الشارع في الداخل مع القضية الفلسطينية، وهو ما عكسته أخيراً حالة التفاعل والتضامن مع الأسرى الفلسطينيين الستة الذي نفذوا عملية "نفق الحرية" وتمكنوا من تحرير أنفسهم من سجن جلبوع الإسرائيلي مطلع الشهر الماضي، قبل أن تعيد قوات الاحتلال إلقاء القبض عليهم.