أكدت دراسة إسرائيلية موثقة للمؤرخ الإسرائيلي آدم راز، نشرت صحيفة "هآرتس" مقاطع منها أمس الجمعة، حجم أعمال السرقة والنهب التي تعرضت لها بيوت الفلسطينيين بعد طردهم وترحيلهم خلال وبعد معارك النكبة في عام 1948، ومشاركة قيادات عسكرية وسياسية في عمليات السرقة، ومعرفة الجميع بها وسكوتهم عنها. وبحسب الدراسة، كما جاء في صحيفة "هآرتس"، فإن زعيم المنظمات الصهيونية ورئيس أول حكومة لإسرائيل، دافيد بن غوريون، قال في إحدى الجلسات: "اتضح أن غالبية اليهود لصوص"، فيما قال الرئيس الثاني لإسرائيل يتسحاق بن تسفي في مناسبة أخرى: "الكل يوافق على الرأي بأن لصوصنا سينقضون على الأحياء المتروكة كالجراد في الحقل أو البيارات".
بن غوريون: غالبية اليهود هم لصوص. أقول هذا بشكل مقصود وببساطة
وبحسب التقرير في "هآرتس"، فإن أول تصريح لبن غوريون بهذا الصدد صدر عنه في 24 يوليو/ تموز 1948 بعد شهرين من الإعلان عن إقامة دولة إسرائيل، حين قال حرفياً: "اتضح أن غالبية اليهود هم لصوص. أقول هذا بشكل مقصود وببساطة، لأنه لأسفي هذه هي الحقيقة". تصريح بن غوريون لم يتطرق لسرقة وطن بأكمله وطرد سكانه، بل فقط لسرقة أملاك أهل الوطن بعد طردهم من أراضيهم وبيوتهم إلى المنافي. وأشار التقرير في "هآرتس" إلى أن محاضر الجلسة التي تحدث فيها بن غوريون أضافت: "سكان مرج بن عامر سرقوا، الطلائعيون آباء قادة وجنود البلماح سرقوا وشاركوا في عمليات النهب كلهم، أيضاً سكان نهلال، هذه ضربة عامة وشيء مخيف لأنه يكشف عطباً رئيسياً، سرقة ونهب".
ولكن بمعزل عن محاولات بن غوريون التطهر من كل ذنب، فهو يجيز سرقة وطن لا سرقة أثاث وسجاد وخزائن البيوت بعد الطرد. وقال تقرير "هآرتس" بالاعتماد إلى دراسة المؤرخ آدم راز تمهيداً لكتاب له عن الموضوع تحت عنوان "نهب الأملاك العربية في حرب التحرير" (مسمى حرب النكبة في الأدبيات الصهيونية)، إن عمليات النهب طاولت كل فلسطين من الشمال وحتى الجنوب في النقب. وأضاف في مقابلة مع الصحيفة: "إن عمليات السرقة والنهب انتشرت كانتشار النار في الهشيم في صفوف الجمهور اليهودي، وشملت سرقة محتويات عشرات آلاف البيوت والمنازل الفلسطينية والحوانيت وورشات العمل والمصانع والماكينات والمحاصيل الزراعية. كما تمت سرقة أدوات موسيقية مثل البيانوهات، فضلاً عن الكتب والملابس والمصاغ والطاولات والأجهزة الكهربائية والمحركات والسيارات. كلها خلّفها وراءهم 700 ألف فلسطيني طُردوا من البلاد وفروا من الحرب".
ولا تنحصر الاقتباسات لقادة إسرائيليين عرفوا بأمر عمليات النهب والسرقة، التي يعتمد عليها راز، على تصريحات بن غوريون وحده، بل تشمل أيضاً تصريحات ليتسحاق بن تسفي، ثاني رئيس لدولة إسرائيل بعد النكبة. وبحسب شهادة للأخير في رسالة وجهها لبن غوريون، فقد شارك في عمليات السرقة والنهب "يهود محترمون يعتبرون عمليات السرقة أمراً طبيعياً ومسموحاً. لقد تحولت هذه السرقات للعرض العام. الكل يوافق على الرأي بأن لصوصنا سينقضون على الأحياء المتروكة كالجراد في الحقل أو البيارات".
ويقوم الكتاب الجديد على زيارات المؤلف لعشرات مراكز الأرشيف الصهيونية، منها التابعة للدولة أو تلك للحركات السياسية والحزبية وللكيبوتسات والمستوطنات اليهودية التي أقيمت على أرض فلسطين بعد النكبة. ونقل المؤرخ راز من رسالة "القيم على أملاك الغائبين" (وهي الصفة التي أطلقتها دولة الاحتلال على المسؤول عن أملاك اللاجئين الفلسطينيين المطرودين من الوطن) تقرير يعود لعام 1949 جاء فيه: "أن الفرار العاجل للسكان العرب بجماهيرهم وترك ممتلكاتهم الهائلة، لمئات وآلاف الشقق والحوانيت والمخازن وورشات العمل وترك المحاصيل في الحقول، كل ذلك خلال الحرب ترك اليشوف (المجتمع الاستيطاني الصهيوني قبل إعلان دولة إسرائيل) المقاتل والمنتصر أمام إغراء مادي خطير، وتجلى ذلك ميدانياً بانهيار تام من دون أي كوابح".
عززت السرقة الموقف السياسي للفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد النكبة
واستخدم ضابط صهيوني يدعى حايم كريمر، أرسل إلى طبريا بعد الحرب، نفس تعبير "الجراد"، في وصفه لعمليات نهب ممتلكات الفلسطينيين: "كالجراد انقض سكان طبريا على البيوت، اضطررنا لاستخدام العصي وضربهم وإلزامهم بترك الأغراض على الأرض". ووصف كريمر توجه وتنافس ألوية تنظيم الهاغاناه (المنظمة الرسمية العسكرية التي تحولت لاحقاً لنواة جيش الاحتلال) للوصول إلى طبريا، بالقول: "كانت منافسة لأقسام مختلفة من الهاغاناه. جاءوا بسيارات وقوارب وحملوا كل شيء: ثلاجات، أسرة، وغيرها". وأضاف: "واضح أن الجمهور اليهودي في طبريا انفجر ليقوم بالنهب مثلهم. وكم كان ذلك بشعاً وكم يلطخ علمنا. عار كبير أدى إلى تدني أخلاقياتنا".
وما حدث في طبريا تكرر أيضاً في حيفا، بحسب شهادة أحد جنود العصابات اليهودية، ويدعى آفي يتسحاقي: "كانوا يقاتلون بيد وباليد الأخرى وجدوا الفرصة للنهب، بما في ذلك سرقة ماكينات خياطة، وملابس".
ووفق شهادة عنصر آخر من لواء كرملي، تسادوق آشل "فقد أخذ الناس كل ما صادفهم، وبعض أصحاب المبادرة فتحوا الحوانيت المتروكة وحملوا البضائع على السيارات. سادت فوضى عارمة. كان فظيعاً مشاهدة حماس الناس للكسب من حالة الفوضى ومداهمة بيوت آخرين قسى عليهم القدر وحولهم إلى لاجئين".
ومع أن المؤرخ راز قال لـ"هآرتس" إنه يظهر في كتابه حجم قلق القيادات من عمليات النهب ومن تداعياتها الخطيرة على المجتمع اليهودي وكم كانت هذه المسألة خلافية عند صانعي القرار، إلا أنه أضاف أنه كان هناك اتفاق ضمني بالصمت وعدم الحديث عن الموضوع. وأقر أن عمليات النهب والسرقة كانت مميزة عن سابقاتها في التاريخ، لأن من قاموا بأعمال السرقة بعد الحرب هم مواطنون يهود سرقوا ممتلكات جيرانهم الفلسطينيين. فاليهود في حيفا الذين سرقوا ونهبوا ممتلكات جيرانهم العرب السبعين ألفاً كانوا يعرفون جيرانهم وأصحاب البيوت. وينطبق هذا أيضاً على اليهود من المدن الأخرى التي تم نهب أملاك الفلسطينيين فيها (مثل يافا واللد والرملة وعكا)، كما ينطبق على سكان الكيبوتسات الذين سرقوا ممتلكات القرى العربية المجاورة لهم، وتمت غالبية عمليات السطو والسرقة بعد انتهاء الحرب.
أما في القدس، فوفقاً للمؤرخ راز، فقد استمرت عمليات السرقة لأشهر طويلة بعد الحرب وشارك فيها مدنيون وجنود وقادتهم العسكريون، بحثوا في كل بيت وسرقوا من كل بيت. ونقل عن مواطن يهودي من سكان القدس، يدعى يئير غورون، أن "النهب كان من نصيب الجميع، نساء ورجال وأطفال تراكضوا في أنحاء القدس للسرقة مثل الفئران المسممة، وتخاصموا وتقاتلوا على كل غرض، ووصلوا إلى حد إراقة الدماء. بعض الجنود في وحدة عتصيون تلفعوا بالسجاد الذي سرقوه".
وقال راز إنه على الرغم من أن سلطات دولة الاحتلال فتحت عشرات ومئات الملفات الجنائية ضد السارقين، إلا "أن الأحكام التي صدرت ضدهم كانت خفيفة إن لم تكن مضحكة، وتراوحت بين غرامة مالية والسجن لنصف عام".
كالجراد انقض سكان طبريا على البيوت
وأكد راز أنه على المستوى السياسي كان أمر السرقات والنهب محتملاً ومقبولاً عند بعض رجال السياسة والجيش، وعلى رأسهم بن غوريون على الرغم من تصريحاته الشاجبة لهذه السرقات على الملأ. كذلك كان لهذه السرقات دور سياسي في بلورة ملامح المجتمع الإسرائيلي. ووصل راز إلى القول في هذا السياق: "إن السرقة ونهب ممتلكات الفلسطينيين شكلا أداة لتطبيق سياسة إفراغ البلاد من سكانها العرب. صحيح أنها بشكل مبسط جعلت من السارقين مجرمين، لكنها أيضاً حولتهم، أولاً على المستوى البسيط والمباشر، ممن قاموا بعمل سرقة انفرادي إلى جزء وشركاء في عمل سياسي، شركاء في خط سياسي سعى إلى إفراغ البلاد من سكانها العرب".
ومع أنه ادعى أن هؤلاء السارقين كانوا غير واعين للبعد السياسي بإفراغ السكان العرب، إلا أنه قال إنهم "بمجرد أن سرقوا ممتلكات جيرانهم العرب، فقد انخفض عندهم الحافز للقبول بعودتهم. وقد كان لهذه الشراكة غير المباشرة بين السرقة الفردية وبين الخط السياسي العام الأكبر تأثير أيضاً على المدى البعيد، إذ عززت الموقف السياسي للفصل بين الشعبين بعد الحرب". ويتضح من المقابلة أن عمليات السرقة ونهب ممتلكات الفلسطينيين كانت أداة بيد بن غوريون لخلق واقع سياسي واجتماعي محدد ووسيلة استخدمها بن غوريون لتحقيق أهدافه.