مصارحات المشيشي في تونس: المصعد الاجتماعي وصلاحية حكم التكنوقراط

21 أكتوبر 2020
اختار المشيشي منهج الشفافية (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

استمع التونسيون بانتباه لرئيس الحكومة هشام المشيشي الأحد الماضي، بعد إحالة الميزانية الجديدة على البرلمان. كان هادئاً ومرتاحاً وواقعياً في عرضه وفي مقترحات حكومته. الآن وقد تم تحديد الوجهة وضبط التصورات ورسم الأهداف والأولويات، أصبح مطلوباً منه الدفاع عن البرنامج الجديد أمام البرلمان والحصول على تزكية أغلبية الأعضاء حتى يتم الشروع في التنفيذ.

لا يدعي الرجل امتلاك حلول سحرية في بلد لم يتمكن إلى حدّ الآن من استعادة توازناته وإيقاف التدهور المستمر. أعلن اعتزازه بكونه ابن المصعد الاجتماعي والمنظومة العمومية. وقصة المصعد الاجتماعي تعود إلى بناء الدولة الوطنية، إذ كانت الفوارق الطبقية شاسعة وعميقة. وحتى يفتح الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، آفاقاً جديدة أمام أبناء الفقراء وسكان الريف، راهن على التعليم وجعل من الحصول على الشهادة فرصة للعمل والارتقاء في الوظيفة والخروج من الدائرة المغلقة للفضاء المحلي. وبفضل ذلك، حدثت تغييرات جوهرية داخل النسيج الاجتماعي، وأصبح بإمكان الفقير أن يصبح ابنه متساوياً في الحظوظ ولو بشكل نسبي مع أبناء الأثرياء، وأن يحتل موقعاً متميزاً، على الرغم من الإمكانيات الضعيفة لأسرته. هذا هو المصعد الاجتماعي الذي أعاد خلط الأوراق ولعب دوراً حاسماً في نشوء الطبقة الوسطى في تونس.


الأرقام التي تم تثبيتها في مشروع الميزانية تصلح لأن تكون منطلقاً لوضع برامج فعلية للخروج من المأزق الراهن

عندما يعترف رئيس الحكومة بذلك، يجد نفسه بالضرورة مؤمناً بدور الدولة، سواء في تحقيق السلم الأهلي أو في حماية الوحدة الوطنية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذه الدولة التي ضعفت وتراجعت، وأصبحت تخضع للابتزاز السياسي والجهوي، وأحاطت بها اللوبيات من كل جهة، وتجرأت عليها العصابات بمختلف ألوانها وأشكالها. لكي تتمكن هذه الدولة من استعادة دورها وهيبتها، عليها أن تنقذ نفسها أولاً من شبح الإفلاس الذي اقتربت منه المؤسسات العمومية. هذه المؤسسات لها ديون ضخمة لدى الدولة، وهو ما أثر كثيراً على نشاطها وأضعف مردوديتها الاقتصادية والاجتماعية. اليوم قررت حكومة المشيشي تصفية هذه الديون في خطوة حاسمة باتجاه إنقاذ هذه المؤسسات، اعتقاداً منها بضرورة الالتزام بالمسؤولية الاقتصادية والأخلاقية للدولة.

كما اختار المشيشي منهج الشفافية، وهو منهج أصبح لا مجال للتهرب منه، خصوصاً في الكشف عن الأرقام الرسمية الحقيقية المتعلقة بنشاطات الدولة. فالأرقام التي تم تثبيتها في مشروع الميزانية عكست بكل وضوح الحالة الصعبة للبلاد، لكنها في الآن نفسه تصلح أن تكون منطلقاً لوضع برامج فعلية للخروج من المأزق الراهن. وقد ساعد الكشف عن الأرقام الصحيحة على كسب ثقة مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي الذي أكد ثقته بالحكومة التونسية، وتوقع بأنها ستكون قادرة على الخروج من المأزق الراهن، وبدأ يعلن عن تعافي الاقتصاد التونسي، إذ توقّع له نمواً نسبياً سيصل إلى 4 في المائة خلال السنة المقبلة، بعد أن بلغت نسبة الانكماش السلبي خلال السنة الحالية 7 في المائة.

كذلك قررت حكومة المشيشي دعم المؤسسات الخاصة، وطلبت من البنوك بذل مزيد من الجهود لطمأنة هذه المؤسسات ومساعدتها حتى تنتج الثروة وتحمي توازناتها، وهي مقدمة للتخفيف من نسبة الضرائب. ومن جهة أخرى، طمأنت الحكومة "الاتحاد العام التونسي للشغل"، أكبر منظمة نقابية، من خلال قرار احترام الاتفاق الذي أقرته الحكومة السابقة، والذي يتعلق بالزيادات في الأجور. وهو ما جعل المشيشي يتراجع عن إعلان سابق له أكد فيه أن الدولة غير قادرة في هذه المرحلة على تحمل مزيد من الزيادات في هذا المجال. وهو إذ اضطر لذلك، نظراً لموازين القوى، وأيضاً بسبب تآكل القدرة الشرائية للعمال والموظفين، إلا أنه أدرك أنّ عدم تنفيذ اتفاق وقعه رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ من شأنه أن يضرّ بمصداقيته، ويلحق به اتهامات من قبيل عدم احترام مبدأ استمرارية الدولة، وهو ما من شأنه أن يجر النقابات نحو التصعيد الاجتماعي الذي سيضر كثيراً بالحكومة، وسينعكس سلباً على برامجها وميزانياتها.


العديد من الأطراف والأشخاص لا يزالون متمسكين بالقول إنّ التكنوقراط لا يصلحون لقيادة الدول والحكومات

وعلى الرغم من هذه الإرادة السياسية التي كشف عنها المشيشي، إلا أنّ التحديات ضخمة. فنسبة التشكيك في شخصه وفي الاختيارات التي أعلن عنها لا تزال مرتفعة. والأجواء القلقة التي خلفتها جائحة كورونا أثرت بوضوح على حالة التواصل بينه وبين عموم المواطنين المسكونين بالمخاوف، فيما أشعرهم ارتفاع نسق الإصابة بالعدوى بالخشية من المستقبل. كما أنّ أطرافاً عديدة تنتقد رئيس الحكومة من زاوية اعتماده على دعم جبهة برلمانية بقيادة حركة "النهضة" وحزب "قلب تونس" إلى جانب "ائتلاف الكرامة". ويخشى هؤلاء من أن تتلاعب هذه الأحزاب بالحكومة، وتعصف باستقلاليتها السياسية. وهو خطر وارد، لكن الرجل وجد نفسه يواجه ميزان قوى قائما داخل البرلمان، ولا يمكن لومه لمجرد انفتاحه على الجميع، وخصوصاً تلك الأحزاب التي قررت دعمه ومساندته.

كما أنّ العديد من الأطراف والأشخاص لا يزالون متمسكين بالقول إنّ التكنوقراط لا يصلحون لقيادة الدول والحكومات، وأنّ المشيشي لا يملك الكاريزما المطلوبة في القائد، ويفتقر للقدرة على الخطابة والتأثير. صحيح هذه ثغرة من الثغرات، لكنها ليست كافية للحكم عليه مسبقاً. فالرجل أثبت تمتعه بخبرة إدارية ملموسة، ووعي اقتصادي ملحوظ، ورغبة في الحوار، كما أظهر في بعض قراراته حزماً ضرورياً حتى يشعر الجميع بوجود الدولة وتوفر الإرادة السياسية المطلوبة في مثل هذه الأوضاع. الطريق لا يزال في بداياته، والزمن وحده كفيل للحكم على الرجل.

المساهمون