يسارع الرئيس التونسي قيس سعيّد، الخطى، ويستعجل الزمن، لاختصار مراحل في طريقه إلى تكريس مشروعه السياسي، قبيل أشهر من الاستفتاء في يوليو/تموز المقبل، ومن الانتخابات التي أعلن عنها نهاية هذا العام في ديسمبر/كانون الأول.
ويداهم الوقت مشروع سعيّد المتعثر، مع الضغوطات الداخلية والخارجية، وتتكاثر على مكتب حكومته المطالب الاقتصادية والاجتماعية الحارقة التي لا تنتظر، بينما خزائن الدولة فارغة، والمانحون يرفضون مد يد المساعدة إلى حين الاستجابة للمطالب السياسية، في وقت يتحدّى الرئيس سعيّد الجميع، ويطلب عدم التدخل في الشأن الداخلي، ويسخر من التصنيفات الاقتصادية، ويحذر بوضوح، الدول الكبرى، من تجاوز حدودها، لأن تونس "ليست ضيعة ولا بستاناً" على حدّ تعبيره.
ويدرك سعيّد أنه سيكون قريباً جداً في مواجهة الحقيقة الاقتصادية، وسيصطدم بأفواه مفتوحة تنتظر تحقيق الوعود، ولذلك فهو يضع خطة بطريقين، مفاوضة صندوق النقد الدولي وتقديم كل التنازلات الممكنة، وحسم ملف الصلح الجزائي مع رجال الأعمال وإنعاش الخزينة، وهو ما يفسر استعجاله حلّ المجلس الأعلى للقضاء، ووضع آخر على المقاس يتيح له ذلك، بحكم أن المجلس الشرعي عارض مشروع الصلح الذي اقترحه سعيّد بسبب مخالفته للقانون.
وتبدأ حكومة الرئيس، اليوم الإثنين، محادثات مع بعثة صندوق النقد الدولي، التي ستقوم بزيارة افتراضية إلى تونس تتواصل إلى غاية 22 فبراير/شباط الحالي، حول جملة الإصلاحات، التّي تنوي تونس القيام بها.
وقبل انطلاق المفاوضات التقنية، كشفت حكومة نجلاء بودن عن برنامج إصلاح اقتصادي سيكون محل نقاش مع خبراء الصندوق، يشمل خفض نفقات الدعم وتجميد الأجور، إلى جانب إعادة النظر في طريقة حوكمة المؤسسات الحكومية، وهي تنازلات رفضتها كل الحكومات السابقة لعدم شعبيتها من ناحية، ولأنه كان يمكنها ذلك من ناحية أخرى بحكم انفتاح الدول المانحة على دعم الديمقراطية الوليدة.
وأمس الأول، السبت، قال وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعّيد، في حوار له بثه التلفزيون الرسمي، إن الحكومة التونسية هي من طلبت التعامل مع صندوق النقد الدولي لمساعدة البلاد على تجاوز هذه المرحلة الصعبة.
وأعلن المسؤول الحكومي أنه أصبح من غير الممكن تأجيل أي إصلاح من الإصلاحات الكبرى المطلوبة، مرجحاً التدرج في رفع الأسعار، مع بدء إصلاح منظومة الدعم.
ولكن هذه المحادثات تبقى محادثات تقنية، يلزمها دعم سياسي دولي لا يحظى به سعيّد حالياً، بل إن الأمور قد تتعكر أكثر بالنظر إلى تصريحات كبار المسؤولين الدوليين بخصوص الوضع في تونس.
وكشف ممثل السياسة الخارجية في الاتّحاد الأوروبي جوزيب بوريل، السبت، عن أن هناك مقترحات لإيقاف المساعدات والدعم المالي إلى تونس، قائلاً "نحث تونس على العودة إلى المسار الطبيعي للديمقراطية، وإلى الحياة الدستورية العادية"، وكان عبّر قبل ذلك بأيام عن "قلقه إزاء قرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء في تونس"، مشدداً على "أهمية استقلال القضاء".
وقالت المتحدثة باسم بوريل، نبيلة مصرالي: "نتابع بقلق تطوّر الوضع في تونس، بما في ذلك ما أعلنه رئيس الجمهورية أخيراً لجهة حل المجلس الأعلى للقضاء"، مضيفة: "مع كامل احترامنا لسيادة الشعب التونسي، نذكّر مجدداً بأهمية الفصل بين السلطات واستقلال القضاء باعتبارهما عنصرين أساسيين لديمقراطية البلاد واستقرارها وازدهارها".
ما مصير المفاوضات مع صندوق النقد؟
إلى ذلك، أكد المحلل السياسي والرئيس السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية طارق الكحلاوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "موقف الرئيس التونسي بالدعوة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية قد يكون مفهوماً من الناحية النظرية والمبدئية، ولكن سعيّد لم يتحدث فقط عن الجانب المبدئي، بل تطرق إلى مسألة التوازنات، فهو يقرّ باختلال التوازنات وضرورة التفاعل معها، وقد تحدث بوضوح عن حساسية المسألة الاقتصادية بحديثه عن التصنيف الاقتصادي متهكماً ومتحدياً لمسألة التصنيف".
وبيّن أن "خطاب سعيّد الأخير حول رفض التدخلات الأجنبية هو رد فعل للتسويق الداخلي أكثر منه سياسة وخياراً، وما يؤكد أيضاً أن عجز موازنة الدولة والصعوبات المالية ليسا الموضوع الرئيسي لدى الرئيس وليسا أولويته، وهو أمر مقلق"، في وقت أن "بيانات الخارج، وخصوصاً الخارجية الأميركية، ذهبت بوضوح إلى ضرورة إعطاء الأولوية للمشاكل الاقتصادية المالية".
وشدد المحلل على أن "هناك مشكلة حقيقية، فالتهكم من أمر واقع (يقصد التصنيف المتدني بسبب الصعوبات الاقتصادية) في وقت لا تمتلك خيارات أخرى، يبدو غريباً"، مستغرباً من "ذهاب تونس إلى مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، في وقت تتهكم من هذا التصنيف الذي يعتمده هذا الطرف". وتساءل الكحلاوي عن "الهدف من هذه التصريحات والمستهدف منها، وهل المقصود بها الأطراف داخل تونس أم الخارج".
وبيّن أن "هناك تشنجاً في الخطاب الدبلوماسي الخارجي للرئيس، ما جعل وزير الخارجية يحاول لعب دور التهدئة". ولفت المحلل إلى أن "انشغال الدول الكبرى عن الشأن التونسي يعطي مساحة أكبر لسعيّد للتحرك، ولكن هذا لن يدوم، لأنه مضطر للذهاب إلى واشنطن لبدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتي لا تنحصر في مفاوضات تقنية، بل إنه سيجد نفسه أمام مفاوضات مع إدارة البيت الأبيض".
وشدد على أن "الأطراف المانحة تربط الإصلاحات الاقتصادية بالجانب السياسي، وفي النهاية لا يمكن الإقراض من دون ضمانات ترتبط بالعودة إلى الديمقراطية كما تراها هي، وهي الديمقراطية الليبرالية وليس شكلاً من الديمقراطية الغريب عن النماذج المعروفة". وأضاف أن "الاقتصاد هو المحدّد والمحرك الرئيسي للشأن السياسي، والحقيقة الاقتصادية هي الحقيقة الأولى والأهم".
وعن خلفية خطاب التحدي وتصعيد اللهجة من قبل سعيّد تجاه الخارج في خطابه الأخير، يعتبر الباحث وعضو الهيئة التنفيذية لمبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" زهير اسماعيل في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "خطاب السيادة الزائف هو جزء من خطاب الشعبوية والفاشية، وهو يعرف أنّه بانقلابه على الدستور والديمقراطية قد جرّف ما بقي من شروط سيادة لم تبخل تجاذبات السنوات العشر في تقليصها".
وأوضح أن هذا "الخطاب الشعبوي يأتي لكسر عزلة الانقلاب في الداخل والخارج، في مقابل حجم المعارضة من قبل القوى الديمقراطية وتمسكها بالدستور والديمقراطية، وحقيقة عجز سعيّد في مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية التي زاد عصفها بمعيشة المواطن، وتدهور قدرته الشرائية المريع بعد 25 يوليو/تموز، وصعوبات الإدارة في تسديد أجور الموظفين". وأضاف "الانقلاب الذي جعل كلّ السلطات بيد فرد واحد يعرف مسؤوليته المباشرة عن كلّ الوضع الاجتماعي، قياساً إلى منظومات حكم سابقة كانت تحت سطوة تجاذبات سياسية، وسلطة مشتتة، حيث كان معدّل كل الحكومات المتعاقبة لا يتجاوز السنة الواحدة".
وقال: "الانقلاب باستهدافه مؤسسات الدولة، وبعد سبعة أشهر على الإجراءات الاستثنائية عاجز عن الفعل، لذلك يهرب إلى الأمام بخطاب سيادي منتحل لا أفق له إلا هدم المعبد على رؤوس الجميع"، مؤكداً أن "لا أفق للانقلاب، في ظل الأزمة السياسية والمالية الاقتصادية المتفاقمة، لذلك يهرب إلى الأمام بخطاب شعبوي بلا سياسة وبلا رؤية، إلا رغبة غير مصرح بها في الثأر لنظام بن علي من ثورة الحرية والكرامة، فالتجربة الديمقراطية المستهدفة اليوم تقف في مواجهة الانقلاب بأذرع مليشياوية هي جزء من نظام الاستبداد الذي كسرته الثورة".