لا تبدو إسرائيل متحمّسة لشن حملة عسكرية واسعة على منطقة شمال الضفة الغربية، وتحديداً في جنين ومخيمها في أعقاب عمليتي إطلاق النار اللتين نفذهما شابان من جنين في بني براك وتل أبيب، رغم دعوات الكثير من النخب اليمينية لتنفيذ مثل هذه الحملة.
وسارع العديد من جنرالات الاحتياط والمعلقين والباحثين المحسوبين على اليمين الإسرائيلي لحث حكومة نفتالي بينت على شن حملة عسكرية في شمال الضفة الغربية تحاكي حملة "السور الواقي"، التي نفذتها إسرائيل في 2002، وأعادت في إطارها احتلال جميع مدن الضفة الغربية.
كما كشفت قناة "كان" الرسمية الجمعة الماضي، أن أحد أهم الأسباب التي تدفع إسرائيل إلى تجنب شن هذه الحملة هو مخاوفها من أن تقود إلى اندلاع مواجهة مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، يتم خلالها استهداف العمق الإسرائيلي بالصواريخ على غرار ما حدث في حربها على غزة في أيار/ مايو 2021؛ وهي الحرب التي اندلعت عقب إطلاق "حركة حماس" الصواريخ على القدس المحتلة ردا على قرار الاحتلال طرد عوائل فلسطينية من بيوتها في حي الشيخ جراح.
وتعي إسرائيل أن تصعيداً عسكرياً مع قطاع غزة يمكن أن يفضي إلى مواجهة قد تستمر وقتا طويلا يتم خلالها استهداف المرافق الحيوية والرموز "السيادية" والتشويش على نمط حياة الجمهور الإسرائيلي بشكل كبير؛ مع كل ما يترتب عليه الأمر من تداعيات اقتصادية واستراتيجية.
وكانت الصواريخ التي أطلقتها "حماس" في مايو/أيار، قد عطلت خط "إيلات عسقلان" الاستراتيجي، الذي تصدر عبره الإمارات حاليا جزءا من نفطها إلى أوروبا، كما توقف العمل في مطار "بن غوريون"، الذي يعد أهم الرموز "السيادية" في إسرائيل عدة أيام خوفا من تضرر الطائرات التي تقلع أو تهبط فيه.
إلى جانب ذلك، فإن حرباً مع غزة ستفضي إلى توقف أو تشويش العمل في الكثير من المرافق الإنتاجية وتعطل المرافق العامة، ولا سيما المرافق التعليمية والمواصلات العامة.
وعلى الرغم من أن ميل موازين القوى لصالح إسرائيل يسمح لها بقتل عدد كبير من الناس وإحداث قدر هائل من الدمار في البنية التحتية في قطاع غزة؛ وبالتالي تعميق أزمة إعادة الإعمار أمام "حركة حماس"؛ إلا أن البيئة السياسية والأمنية في قطاع غزة لن تتغير في اليوم التالي للحرب. إذ إن إسرائيل ليست مستعدة لشن حرب تفضي إلى إعادة احتلال القطاع وإسقاط حكم الحركة.
ويأتي ذلك ليس فقط بسبب الكلفة الباهظة التي ستتكبدها على صعيد الخسائر في صفوف جنودها؛ بل أيضا لأنه لا يوجد طرف ثالث يمكنه أن يتولى زمام الأمور في قطاع غزة في أعقاب إسقاط حكم "حماس"؛ مما يعني حلول الفوضى؛ وهو ما يعني منح أطراف فلسطينية أخرى القدرة على العمل ضد كيان الاحتلال بحرية انطلاقا من قطاع غزة.
إلى جانب ذلك، فإن تل أبيب تعي أن مبادرة غزة بالرد على حملة عسكرية للاحتلال في الضفة سيعزز من مكانة "حركة حماس" الداخلية وسيضعف مكانة السلطة الفلسطينية، لا سيما أن إسرائيل ذاتها تقدر أن مكانة السلطة قد تراجعت كثيرا في الضفة، بما في ذلك فقدانها السيطرة في شمال الضفة.
وعلى صعيد الحسابات السياسية الاستراتيجية، فإن اندلاع مواجهة مع غزة حاليا لا يخدم جهود إسرائيل الهادفة إلى التأثير على مفاوضات "فيينا" ورغبتها في إحباط العودة إلى الاتفاق النووي بين إيران والقوى العظمى. إذ إن اندلاع حرب ضد غزة سيقلص من قدرة إسرائيل على استثمار رأسمالها السياسي والدبلوماسي في التأثير على مفاوضات فيينا.
وحتى في ما يتعلق بحسابات السياسة الداخلية، فإن اندلاع مواجهة مع غزة لا يخدم مصالح بنيت الذي يصارع من أجل الحفاظ على بقاء حكومته بعد أن فقدت أغلبيتها البرلمانية بانشقاق النائب عيديت سيلمان. كما أن انتهاء الحرب إلى نفس نتائج حرب مايو/أيار 2021 سيضعف مكانة بينت أكثر ويعزز من صدقية الخطاب الذي تتبناه المعارضة بقيادة بنيامين نتنياهو، فضلا عن أن هذه الحرب قد تدفع أطرافا في الحكومة إلى الانسحاب منها، مثل حركة "ميريتس" والقائمة الموحدة بقيادة منصور عباس.