من مفارقات الحالة الليبية أن الدستور هو ما يعطّل اليوم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها المقرر في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، بعدما تحول من ضامن للحقوق، ومن كلمة الشعب المنظّمة لشكل الحكم والعلاقة بين الحاكمين، إلى محل جدل بين المتصارعين في البلاد، الذين يأبون ترك مناصبهم ومغادرة المشهد السياسي، بل يفضلّون إعادة الأوضاع إلى المربع الأول للأزمة.
أعطى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، لنفسه، الحق بالحديث نيابة عن كلّ الليبيين، حين قال إن "الليبيين يرفضون مشروع الدستور". لا أحد يعلم كيف تمّ ذلك، وكيف استطاع صالح معرفة رأي الليبيين بمشروع الدستور، والحديث بهذه اللهجة القاطعة، إلا إذا كان يعتقد بأن الـ170 نائباً التابعين لمجلسه هم نواب حقيقيون ممثلون للشعب، على الرغم من أن غالبيتهم لا يشاركون في جلسات البرلمان التي تعقد في طبرق، والتي لا تلتئم إلا نادراً، ويتفرد فيها عقيلة صالح بالقرار.
في الجانب الآخر، استيقظ المجلس الأعلى للدولة، بعد قرابة 4 سنوات من إقرار مشروع الدستور من قبل الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي (في يوليو/ تموز 2017)، ليؤكد، على لسان رئيسه خالد المشري، أول من أمس الثلاثاء، من العاصمة طرابلس، تمسكه بالاستفتاء على المشروع قبل الانتخابات، ويوزع الاتهامات يميناً ويساراً لمعرقلي مسار الاستفتاء. وأكد المجلس الأعلى للدولة أن مشروع الدستور أصبح ملكاً لليبيين، ولا يمكن لأحد أن يصادره منهم، حتى إن اتهاماته طاولت رئيس المفوضية العليا للانتخابات، عماد الدين السائح.
حتى إن صحّت معظم الاتهامات التي أطلقها المشري، إلا أنها لا تبرئ ذمّته وذمّة أعضاء المجلس الأعلى للدولة. فمشروع قانون الانتخابات سُلّم للمفوضية العليا منذ أغسطس/ آب 2017، بعدما أقرّته الهيئة التأسيسية في يوليو/ تموز من العام ذاته. ولا يمكن فهم موقف المجلس الأعلى للدولة المطالب اليوم بضرورة الاستفتاء على الدستور قبل إجراء الانتخابات، إلا في سياق المناكفات السياسية، والصراع مع مجلس النواب، خصمه التقليدي. ولا دليل على ذلك أكثر من اقتران موقف المشري، بإعلان المجلس الأعلى عن فتح باب الترشح للمناصب السيادية، أحد أهم ملفات الصراع والتخاصم بين المجلسين، بل والمطالبة بإضافة مؤسسة جديدة إلى قائمة المؤسسات السيادية، وهي المؤسسة العسكرية، التي رهن مصير توحيد المؤسسات الأخرى بتوحيدها. فالمجلس "لن يذهب إلى النهاية في ملف المناصب السيادية، إلا إذا حدث تقدم واضح في ملف توحيد المؤسسة العسكرية وإنهاء انقسامها"، وفقاً للمشري خلال مؤتمره الصحافي أول من أمس.
بات واضحاً اليوم أن كلا الطرفين، المجلس الأعلى للدولة وبرلمان طبرق، لا يسعيان إلى ضمان مسار نزيه للانتخابات. فمشروع الدستور يضمن للمجلس الأعلى للدولة هدفه بشأن الانتخابات الرئاسية، كون نصوص الدستور تقيّد صلاحيات رئيس البلاد ومهامه وتحدّدها، وهو ما لا يخدم مصالح الطرف الآخر، وإن كانت الخصومة لا تزال مكتومة بين عقيلة صالح وخليفة حفتر. وتمنع بنود المشروع العسكريين ومزدوجي الجنسية من الترشح لأي منصب سياسي، كما تقيد صلاحيات الهيئة التشريعية الجديدة وتخفض من مستوى هيمنتها على قرارات الدولة وتمنح الرئيس حقّ حلّ البرلمان.
الخلاصة أن حقّ الانتخابات والدستور سلب من يد المواطن، الذي بات يعيش على هامش اللعبة، ولا يحضر إلا عند الدندنة حول آلامه واحتياجاته المعيشية، في تصريحات ولقاءات قادة أطراف الصراع.