تنذر الأوضاع في قرغيزستان بانزلاق البلاد إلى فوضى شاملة وانهيار في المنظومة السياسية. وفي ظل غياب الرئيس سورونباي جينبيكوف عن الأنظار، واستقالة رئيس الوزراء كوبات بك بورونوف، يبقى البرلمان المنتهية ولايته الملجأ الشرعي الوحيد لرسم خريطة طريق للخروج من الأزمة، لكنه ما يزال عاجزاً عن اختيار رئيس وزراء جديد، أو البت في مصير جينبيكوف من ناحية عزله أو تثبيته في السلطة.
في موازاة ذلك، أعلنت لجنة الأمن الوطني القرغيزية، أمس الخميس، أن قوات الأمن تدعو السياسيين للجلوس إلى طاولة المفاوضات. وقال ممثل المكتب الصحافي للجنة، لوكالة "نوفوفستي" الروسية، إن "هيئات الأمن، الهيئات الخاصة والقوات المسلحة القرغيزية، تطالب جميع القوى السياسية في الجمهورية بالجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل مصلحة كل مواطن، وإعادة البلد إلى سبيل القانون والاستقرار الاجتماعي". يشار إلى أن الأعضاء الذين شاركوا في الاجتماع وقعوا على بروتوكول بهدف "عدم السماح بتدهور حالة الجريمة في البلاد، ومنع محاولات تأثير الجريمة على القوى السياسية في الجمهورية، ومنع محاولات زعزعة هيئات سلطة الدولة". كما خططوا لتحييد العناصر الإجرامية واتخاذ تدابير لمنع زعزعة الوضع في السجون.
اضطر سكان العاصمة إلى إنشاء لجان محلية للدفاع عن أحيائهم ومنع أي عمليات نهب وسرقة
ومع عدم التوافق بين النخب السياسية المؤيدة والمعارضة، فإن الأوضاع مرشحة للتدهور وفق سيناريوهات أسوأ مما حصل في عامي 2005 و2010. فأمنياً، اضطر سكان العاصمة إلى إنشاء لجان محلية للدفاع عن أحيائهم، ومنع أي عمليات نهب وسرقة. ومنذ الأربعاء الماضي، أغلقت معظم المصارف أبوابها في وجه العملاء، فيما أبقى بعضها على عمل الصرافات الآلية في مناطق محمية بشكل جيد، وسط تعمق أزمة البلاد الاقتصادية في البلد ضعيف الموارد أصلاً. وحذرت وزارة الصحة القرغيزستانية من أن معدلات الاصابة بفيروس كورونا ارتفعت بنحو 150 في المائة، ووصلت إلى أعلى معدل منذ 13 أغسطس/آب الماضي.
وعقب إعلان فوز أربعة أحزاب، بينها اثنان مقربان من السلطة، اندلعت الاحتجاجات في العاصمة بشكيك الاثنين الماضي. وفي غضون ساعات سيطر المحتجون الغاضبون على مباني البرلمان والحكومة والإدارة الرئاسية ومكتب النائب العام ومقر عمدة العاصمة. كما اقتحموا بشاحنات ضخمة سجناً في العاصمة بشكيك، وأطلقوا سراح الرئيس السابق للبلاد ألماز بك أتامباييف، ورئيس الوزراء السابق سابير إيزاكوف، وعدد من السياسيين الآخرين الذين تم سجنهم بعد إدانتهم بعدة قضايا في السنوات الماضية.
ورداً على تظاهرات في بشكيك طالبت بإقالة جينبيكوف، الذي لا يُعلم مكان إقامته منذ ثلاثة أيام، نظم أنصاره، أمس الخميس، وقفة داعمة له في مدينة أورش الجنوبية التي يتحدر منها الرئيس وعدد كبير من المسؤولين الحاليين. وبعد إجبارها الرئيس على إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أعلن بورونوف المؤيد للرئيس استقالته. وفي محاولة لملء الفراغ في السلطة، أعلنت عدة أحزاب، الثلاثاء الماضي، تشكيل المجلس التنسيقي للمعارضة لإدارة البلاد، والذي أعلن أمس الأول أن البرلمان صادق، في جلسة عقدها في أحد الفنادق وسط العاصمة، على تعيين المعارض القومي الشعبوي سادير جباروف رئيساً للوزراء بالإنابة، وهو ما رفضته أحزاب عدة.
ودبت الانشقاقات في صفوف المعارضة، إذ أعلنت أربعة أحزاب عن تشكيل "المجلس التنسيقي الشعبي"، وطرحت بدورها مرشحاً عنها لرئاسة الحكومة بالإنابة هو تيليك توكتاغازييف، المقاول البالغ 29 سنة، حتى تنظيم انتخابات جديدة. وكانت هذه الأحزاب أعلنت رفضها تولي جباروف المنصب، واتهمته بأنه يسعى إلى ترهيب أعضاء البرلمان والمعارضة، وإجبارهم على تقبل الأمر الواقع بحجة الخوف من الانزلاق إلى حرب أهلية، بعد تصريحات قال فيها إن على جينيبكوف أن يستقيل من أجل "تسوية الوضع"، واصفاً اجتماع الأحزاب المعارضة في مكتب رئيس الحكومة بـ"المناهض للثورة"، وملمحاً إلى احتمال تفاقم الوضع.
نظم أنصار جينبيكوف، الذي لا يُعلم مكان إقامته منذ ثلاثة أيام، وقفة داعمة له
وكان "مجلس التنسيق الشعبي" أعلن أنه تولى جميع سلطات الدولة وقرر حل البرلمان، في تراجع عن قرارات سابقة لجميع أحزاب المعارضة بضرورة المحافظة على البرلمان ونقل السلطة عن طريقه، لأنه الطرف الوحيد المخول بحل الأزمة في ظل غياب الرئيس واستقالة رئيس الوزراء. ويواصل أنصار سديروف، الذي كان مسجوناً بقضايا فساد وأطلق سراحه الثلاثاء الماضي، حصار مبنى الحكومة، مانعين الأطراف المعارضة الأخرى من دخوله، ما ينذر بانهيار عمل مؤسسات الدولة.
وفي ظل الغموض، وتبدل خريطة التحالفات على الأرض، يبدو أن موسكو غير راغبة في الانخراط المباشر لحل الأزمة، وتواصل دراسة وتحليل المعلومات حتى لا يتسبب أي خطأ في نقمة شعبية عليها. وعلى الأرض، شددت روسيا من الإجراءات الأمنية في قاعدتها العسكرية الجوية قرب بشكيك. وتعليقاً على تسارع التطورات، قال الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف، أمس الخميس، إن الكرملين يشعر بقلق عميق إزاء ما يحدث في قرغيزستان، فالوضع هناك عبارة عن فوضى عارمة، مشيراً إلى أن بشكيك "شريكة ونحن نعمل في سياق التكامل في إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ورابطة الدول المستقلة. وبالتالي كل ما يحدث هناك مهم للغاية بالنسبة لنا". وكان الرئيس فلاديمير بوتين أعرب عن قلقه مما يحدث في قرغيزستان. ومع تأكيده أن الانتخابات "ديمقراطية"، فقد شدد على ضرورة حل النزاع سلمياً. وأشار بوتين، في حوار تلفزيوني الأربعاء الماضي، إلى أن "الانتخابات البرلمانية جرت أخيراً. وبالمناسبة، تم الاعتراف بها على أنها ديمقراطية". وأضاف "نأمل أن يكون الحل سلمياً، وأن تعود العملية السياسية الديمقراطية الطبيعية، في أقرب وقت ممكن". وأكد أن روسيا على اتصال مع جميع أطراف الأزمة، مشدداً على أنه "بعد عودة الوضع السياسي الداخلي إلى طبيعته، سنواصل تنفيذ جميع خططنا مع قرغيزستان، مع الأخذ في الاعتبار أن قرغيزستان عضو في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ولدينا كم كبير من العمل المشترك".
وتعد روسيا أهم شريك اقتصادي لقرغيزستان، وهي تملك قاعدة عسكرية جوية قرب بشكيك. كما أن البلدين يرتبطان بمعاهدة منظمة الأمن والتعاون، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي. ومعلوم أن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أشعلت الاحتجاجات الحالية، وسط ظروف اقتصادية صعبة تعيشها البلاد بسبب كورونا وتراجع حجم التحويلات من روسيا، وتوقعات بانكماش الاقتصاد في شكل كبير. وعلق كثير من المواطنين آمالهم على تغييرات في تشكيلة البرلمان السابق، لكن النتائج أفرزت فوز أربعة أحزاب (من أصل 16) بعد تجاوزها نسبة الحسم 7 في المائة، وتصدر النتائج حزبان داعمان لسلطة جينبيكوف. والأحزاب الفائزة هي "بيرميديك" (الوحدة) بنحو 24.5 في المائة، و"ميكينيم قرغيزستان" (وطني قرغيزستان) بقرابة 23.88 في المائة، و"قرغيزستان" بواقع 8.76 في المائة، و"بوتون قرغيزستان" (كل قرغيزستان) بنحو 7.13 في المائة.
ورغم أن أسماء هذه الأحزاب توحي بأنها عابرة للتقسيمات المناطقية والعرقية، فإن الخبراء يصنفونها على أنها مدعومة من مجموعات النفوذ في الجنوب. ويتهم قادة المعارضة هذه الأحزاب بأنها زورت نتائج الانتخابات باستخدام سطوة السلطات الحاكمة. وأثار فوز "الجنوبيين" مجموعات منظمة من أبناء الشمال، خصوصاً في بشكيك، وأطلقوا الاحتجاجات بعد النتائج مباشرة. وتعاني قرغيزستان انقسامات على أساس مناطقي وعشائري وعرقي، ما يُعقد ضبط الأوضاع في حال انزلقت إلى الفوضى، وعدم التوصل إلى خريطة طريق سريعة للمستقبل، تتضمن تقرير مصير جينبيكوف الذي يحق للبرلمان فقط عزله، ووضع حد لانفلات الأوضاع الأمنية التي يزيدها تدهوراً التنافس بين مختلف الأحزاب والمكونات العرقية والعشائرية لفرض إرادتها على مستقبل البلاد. ويحذر خبراء من أن عدم التوصل إلى حلول سريعة، يدفع البلاد إلى دوامة حرب طاحنة أقسى مما شهدته في العقدين الأخيرين بفعل الخلافات العرقية، وثورتي 2005 و2010.