فلسطين والشرق الأوسط.. ما الّذي تغيّر بعد 75 عامًا من النّكبة؟

28 مايو 2023
اجتماع وزراء خارجية الدول العربية (Getty)
+ الخط -

أفرز إعلان قيام إسرائيل عام 1948 واقعًا إقليميًّا شاذًا، واستغرق الأمر قرابة ثلاثة عقود، قبل أن تحظى بقدر من "الشرعيّة الإقليميّة"، على الرغم من قدرتها على التأثير في "المشهد الإقليميّ" وتوازناته، وإدارة "أزمات ممنهجة" وشنّ حروب متكررة لفرض "هيمنتها الإقليميّة"، وتوسيع علاقاتها مع القوى الدوليّة والإقليميّة المؤثرة في الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من اعتراف القوى الدوليّة الكبرى بإسرائيل منذ نشأتها، والدعم الغربي الواضح لضمان تفوقها على جيرانها مجتمعين، وانتهاج إسرائيل سياسات القوة ضد الفلسطينيّين والعرب، فقد استمرّ "الموقف العربيّ العام"، رافضًا فكرة منحها "الشرعية"، على نحو ما تجلّى في "اللاءات الثلاث"، التي رفعتها القمّة العربيّة، في الخرطوم أغسطس/آب 1967، (لا سلام، لا اعتراف، لا مفاوضات).

بيد أنّ هذا الموقف العربيّ "الصّحيح" في رفضه الاعتراف بشرعيّة الاحتلال، تآكل تدريجيًّا؛ إذ فرضت هزيمة 1967، تحوّلًا جوهريًّا في مسار الصراع العربيّ الإسرائيليّ، على مستوييْن متداخليْن؛ أحدهما بروز مكانة إسرائيل وأهميتها الوظيفيّة في الاستراتيجيّة الأميركيّة، إلى حدّ إبرام تحالف استراتيجيّ معها، ظلَّ الأقوى والأوثق، مقارنةً بأيّة تحالفات أخرى في الشرق الأوسط، سواء كانت إقليميّة أم دوليّة. والآخر تغيّر "الإدراك الرسميّ العربيّ" لإسرائيل وطبيعة الصراع معها، ما أدّى إلى توجّه الرئيس المصري محمد أنور السادات أوّلًا، (ثم أغلب النظم العربيّة تدريجيًّا)، نحو عملية التّسوية، التي احتكرت واشنطن تصميمها وإدارتها وتوظيفها، لتحقيق معظم أهدافها الاستراتيجيّة، خصوصًا إدماج حليفها الإسرائيليّ في نسيج المنطقة، بما يحفظ أمنه وتفوقه، في مقابل إضعاف الأطراف والأطر العربيّة والإقليميّة، بغية تجريّد الشّعب الفلسطينيّ من أيّ دعمٍ عربيٍّ أو إقليميٍّ، يمكن أن يساعده في نضاله التّحرريّ.

ثمة ثلاثة تحديات سوف تعجز إسرائيل عن مواجهتها؛ أوّلها تصاعد المقاومة الشعبيّة الفلسطينيّة مع دخول جيل الشباب إلى الميدان، وبروز مجموعات/أيقونات ذات طبيعة مختلفة

وربّما تبدو المفارقة الكبرى هنا أن هزيمة 1967 آذنت باشتداد ساعد العامل الذّاتيّ الفلسطينيّ لتبدأ الرحلة المؤقتة لصعود "الوطنيّة الفلسطينيّة"، مع بروز "قدرة فلسطينيّة" على التأثير في الأردن ولبنان، خصوصًا عبر التقارب مع مصر، أواخر حكم الرّئيس جمال عبد النّاصر، وتسجيل انتصارات رمزيّة في مواجهة إسرائيل (معركة الكرامة 1968).

بيد أن "صعود العامل الفلسطينيّ"، تلقّى ضربةً موجعةً بمجرد انعطاف أنور السادات نحو إبرام "التّسوية المنفردة" مع إسرائيل؛ إذ قضى هذا التوجّه المصريّ على أيّة إمكانية لتحوّل العامل الفلسطينيّ إلى القدرة على التأثير في مجرى الصراع العربيّ الإسرائيليّ، ناهيك عن التأثير في المعادلات الإقليميّة أو الدوليّة. كما فرضت تداعيات التّسوية، ضغوطًا أكبر على منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، جرّدتها من مواطن قوتها، كما تجلّى في سلسلة الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان منذ العام 1978 فصاعدًا، ثم حرب السنوات الثّمانية بين العراق وإيران، ثم جهود السعودية في "تعريب" مسار كامب ديفيد، عبر طرح أفكار الأمير فهد للسلام عام 1981، ثم الغزو العراقيّ الكويت عام 1990.

بيد أن انهيار البُعد الفلسطينيّ وتراجع تأثيره العربيّ والإقليميّ، لم يكتمل إلّا بعد توقيع اتّفاق أوسلو عام 1993، الذي أدّت تداعياته إلى: فتح أبواب "الشرعية الإقليميّة" أمام إسرائيل وتوسيع شبكة علاقاتها العربيّة والإقليميّة والدوليّة، مع تغير هيكلية القضية الفلسطينيّة، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا ومجتمعيًّا، على نحوٍ أوهنَ "ثقافة المقاومة"، التي انتعشت إبان انتفاضة 1987، والتي مثّلت محاولةً جادة لإعادة بناء الهوية والثقافة والفعل الفلسطينيّ المقاوم، وتحقيق قدر من "الاستقلاليّة المجتمعيّة"، وتأكيد القدرة على التصدي لسياسات الاحتلال.

وهكذا ربّما يمكن تفسير مجمل التّغيير/الاختلاف في المشهد الإقليميّ، بعد 75 عامًا من نكبة فلسطين والعرب، بخطيئة الانزلاق العربيّ/الفلسطينيّ نحو التّسوية والتطبيع مع إسرائيل، التي نجحت في حصر الصراع في مسألة "أمنها"، ناهيك عن توظيفها (بمساعدة أميركيّة) التّسوية في تحصيل "الشرعيّة الإقليميّة"، مع نزع الشرعيّة عن قضية فلسطين، ودمغ المقاومة بـ "الإرهاب"، بالتّزامن مع تغيير مكوّنات وقيم العقل الجمعي الفلسطينيّ والعربيّ، ليرضخ للتفسير الصهيونيّ للتاريخ ويبتعد عن ثقافة المقاومة والكرامة، ويلتزم الفلسطينيّون والعرب "ثقافة السلام"، لكي يحصلوا على "التنمية والازدهار".

وعلى الرغم من هذا الواقع الإقليميّ، الذي يشي بنجاح إسرائيل نسبيًّا، في تطويع القوى الفلسطينيّة والعربيّة، وعلى الرغم من المسعى الأميركيّ الحثيث لإدخال الهند حليفًا استراتيجيًّا مع إسرائيل والإمارات ضمن " مجموعة I2 - U2"، لموازنة تصاعد النفوذ الصينيّ في المنطقة، فإن ثمة ثلاثة تحديات سوف تعجز إسرائيل عن مواجهتها؛ أوّلها تصاعد المقاومة الشعبيّة الفلسطينيّة مع دخول جيل الشباب إلى الميدان، وبروز مجموعات/أيقونات ذات طبيعة مختلفة (كتيبة جنين، عرين الأسود، إبراهيم النابلسي، عدي التميمي.. إلخ)؛ واحتمال ميلاد "نموذج انتفاضيّ" فلسطينيّ مؤثّر في الشرق الأوسط، شريطة الاستمرار في التعبير عن حاجاته المحلية، (وليس التوظيفات العربيّة والإقليميّة). وثانيها احتمال عودة الحراك الشعبيّ العربيّ، بسبب تفاقم الأزمات المعيشيّة والسياسيّة، وارتباك أغلب النظم العربيّة في معالجتها. وثالثها صعوبة تهميش دورَيْ تركيا وإيران في المنطقة.

وعلى الرغم من عدم تطابق المشروعين الإقليميّين لأنقرة وطهران مع المصالح الفلسطينيّة والعربيّة، فإنهما يعزّزان درجة "الاستقلاليّة الإقليميّة"، في مواجهة تصاعد التنافس الأميركيّ الصينيّ على الشرق الأوسط، وهذا عامل إضافي ربما يدعم صعود تأثير البعد الإقليميّ في قضية فلسطين، على نحو قد يتفوق على تأثير البعد الأميركيّ/الغربيّ فيها، خصوصًا إذا نهضت مصر بثورة جديدة، تُعيد للعرب وزنهم الإقليميّ.