غسان أبو ستة... طبيب الجرح الفلسطيني

23 ديسمبر 2023
أبو ستة أول طبيب عربي يضع منهاجاً في طب النزاعات والحروب (حسين بيضون/العربي الجديد)
+ الخط -

ترتكز سياسة إسرائيل الحيوية على التحكم بمفاصل الحياة والصحة والمجال العام، واستخدام الجسد الفلسطيني في السياسة لتعزيز استعمارها الاستيطاني، وتصل بذلك إلى حد الإبادة الجماعية. أثبت الطبيب الفلسطيني ــ البريطاني غسان أبو ستة، من خلال دارسته إصابات الجرحى الفلسطينيين وتحليلها، قيام الكيان الإسرائيلي بتجريب أسلحة جديدة على الفلسطينيين، واستخدامهم وسيلة للتسويق التجاري لأسلحة إسرائيلية جديدة، فضلاً عن استخدام نتائج الإصابات في تطوير البحث بمجال الصناعة الحربية الإسرائيلية.

وقدم الطبيب، الذي عاين حروب إسرائيل الإرهابية خلال تطوعه في مشافي غزة، أدلة موثقة لاستخدام إسرائيل العقاب من خلال تشويه الجسد الفلسطيني، كما فعلت في مسيرات العودة، حيث أطلق القناصة الإسرائيليون النار على حوالي ثمانية آلاف شاب وشابة فلسطينية، ليس بقصد قتلهم وإنما لخلق الإعاقة عندهم، و"يتعمد القناص اختيار الثلث الأسفل من الفخذ لخلق الإعاقة"، بهدف نشر الإعاقات في المجتمع الفلسطيني، وما يترتب عليها من تعطيل للحيوية الشبابية، وأثمان نفسية واقتصادية واجتماعية مدمرة.
وقد لخص أبو ستة، بالتعاون مع الصحافي ميشال نوفلن تجربته ما قبل العدوان الأخير في كتاب "سردية الجرح الفلسطيني: تحليل للسياسة الحيوية الإسرائيلية"، الذي صدر عن دار رياض الريس في بيروت عام 2020.

كتاب "سردية الجرح الفلسطيني" لغسان أبو ستة وميشال نوفل
كتاب "سردية الجرح الفلسطيني" لغسان أبو ستة وميشال نوفل (العربي الجديد).

تجريب الفوسفور والدرونز 

يذكر الكتاب أنه خلال عدوان 2008، "ضربت إسرائيل القطاع بمليون ونصف مليون كلغ من المتفجرات، ومنها الفوسفور الذي استخدم سابقاً في تنظيف السراديب والخنادق، هذه المرة تحول الفوسفور الى قنبلة تطلق من الجو، أو إلى قذيفة مدفع أو دبابة، وعندما تنفجر القذيفة، فإنها تغطي مساحة واسعة على شكل مظلة، علماً أن خطر الفوسفور لا يقتصر على أنه يسبب حروقاً جسدية فردية، بل يمكن أن يصبح بخاراً إذا امتزج بالماء، وينقلب خطراً كبيراً على الصحة العامة في حال الاستنشاق". يضيف الدكتور أبو ستة أن "الحرق الفوسفوري يختلف عن الحرق الكيميائي، لأنه يفترض استئصال كل قطعة فوسفور دخلت الجسم، وإلا فإنها تستمر في الاحتراق، وتسبب تشوهات كبيرة نتيجة لقوة الاحتراق.. أضاف الإسرائيليون إلى مادة الفوسفور معجوناً يقوم بدور المثبت الكيماوي، بحيث يستمر احتراقه طويلاً، لقد رأيت سيدة غزاوية احترقت وأولادها بعدما تعمّد الإسرائيليون قذف سيارتها بالفوسفور وهي تحاول الهرب".

كما اختبر الإسرائيليون سلاحاً آخر جديداً في عدوان 2008 هو "الدايم الذي يُخرج من القنبلة، عندما تنفجر، نوعاً من الرذاذ، أشبه بالسبراي، مكوناً من جزئيات الكوبالت، وهو معدن ثقيل يسبب عمليات بتر خطيرة في الأطراف، ويصبح مسرطناً إذا ظلت بقاياه في الجسم البشري". كما ظهر الاستخدام الأول للقذائف الفراغية التي تؤدي إلى تدمير بناية بكاملها وقتل من فيها. أصبح الدرونز الذي يمكنه قذف 10 قنابل غاز بضاعة أساسية في تجارة السلاح الإسرائيلي في أعقاب عدوان 2014. 

غسان أبو ستة متطوعا في مستشفى الشفاء بغزة 2014 (Getty)
غسان أبو ستة متطوعاً في مستشفى الشفاء بغزة 2014 (Getty)

النكبة مستمرة

لم تنته النكبة، كما يرى أبو ستة، فمحاولة اقتلاع الجسم الفلسطيني كانت في صلب المشروع الصهيوني منذ بدايته، فقد دعا بن غوريون عام 1947 إلى التطهير العرقي: "لا يمكن أن تكون هناك دولة يهودية مستقرة وقوية ما دامت الأغلبية اليهودية فيها لا تتعدى 60%". واستعاد نتنياهو هذه المعادلة بقوله إنه "إذا صار العرب يشكلون 40% من السكان فإن هذا سيكون نهاية الدولة اليهودية، ولكن نسبة 20% هي أيضاً مشكلة، وإذا صارت العلاقة مع نسبة 20% مشكلة، فإن للدولة الحق باللجوء إلى إجراءات متطرفة". 
"النكبة مستمرة بالنسبة إلى الإسرائيلي، والهدف هو الإلغاء السياسي، حتى لو اقتضى ذلك الإلغاء الجسدي للشعب الفلسطيني، الإسرائيلي لم ينته من النكبة، بل على العكس، إنه يطور النكبة مع التطور الديمغرافي، وسيواصل في هذا الاتجاه"، يكتب أبو ستة الذي يصف بدقة سياسة إسرائيل الصحية تجاه الشعب الفلسطيني عموماً، وتجاه غزة بما تشكّله من تحد سكاني كبير، وهذا ما رآه الطبيب أبو ستة في مجزرة الشجاعية، فـ"عندما ضرب الإسرائيليون السوق، جاء إلى المستشفى خلال 5 دقائق ما يزيد عن 250 جريحاً، ولدى انتهاء العدوان تلك الليلة، بدا الممر الملاصق لقسم الاستقبال في مستشفى الشفاء، الذي اضطررنا إلى تحويله إلى قاعة للعلاج بسبب كثرة الجرحى، غارقاً بالدم اللزج على الأرض الذي يجعل الحذاء يغرق بالدماء أيضاً. في تلك الليلة، لم أكن ألاحظ كمية الدماء على الأرض، بسبب العتمة إلا من صوت الحذاء، عندها تشكّلت لديّ القناعة المطلقة بأنها حرب إبادة، ولا توجد خطوط توقف الآخر عن محاولة الإيغال بسفك الدماء، هذه الإبادة المستمرة منذ عام 1947 حتى الآن، نحن لم نهزمها، ولكن هي أيضاً لم تهزمنا". ما يعمل عليه الإسرائيلي هو إنشاء حالة تبقي الفلسطينيين في غزة بين الخنق والاختناق، أكثر من الخنق، وأقل من الاختناق الكامل، أي بين الحياة المنتقصة والموت الناقص، وهذا يستدعي جز العشب كلما نما، على حد تعبير شارون، بالإشارة إلى حاجة إسرائيل للعدوان خلال كل فترة، وفق أبو ستة.

الجرح الفلسطيني مستمر، طفل ووالدته في مستشفى العودة 2023
الجرح الفلسطيني مستمر، طفلة ووالدتها في مستشفى العودة 2023 (Getty)

سردية الجرح الفلسطيني

ما يميز إصابات الحرب، عن أي نوع آخر من الأمراض، أن جرح الحرب يختزن كل سرديتها التي يحملها الجريح طوال عمره، في لحظة تلقي الإصابة، يزرع السلاح في الجسد رواية تلازم جرحى الحرب طوال حياتهم، فتحمل رواية الجرح بداخلها رواية الحرب نفسها، فتعطي جرح الحرب قيمة معنوية، بل قيمة سياسية. يعمد الإسرائيلي لقتل الفلسطيني أو إعاقة جسده لتثبيت قناعة عند الفلسطينيين بأن الكيان الإسرائيلي قادر على التحكم بحياتهم ومصائرهم وحتى أجسادهم وعافيتها، وبالتالي يخلق الرعب في نفوس الفلسطينيين، ويسهل التحكم بهم. وحتى في زمن الهدوء، تستمر الحرب على الجسد الفلسطيني، من خلال منع وصول الأدوية والمعدات إلى المشافي، وأيضاً عدم السماح للراغبين بالتداوي خارج القطاع من ذلك، ذلك أنه "لكي يحصل المريض الفلسطيني على تصريح يسمح له بالعلاج في القدس، عليه تقديم تصريح من غزة للإسرائيليين، على ألا يكون صاحب العلاقة قد دخل السجن طوال حياته، وهو الأمر الذي ينطبق على أقربائه، لذلك 55% من طلبات العلاج في الضفة الغربية انطلاقاً من غزة تُرفض".
تستمر هذه السياسة بعنف أكبر أثناء العدوان، حيث نشهد كما حصل في 2014 "تعطيل النظام الصحي في القطاع، من خلال ضرب سيارات الإسعاف، واستهداف المدارس التي تحولت الى ملاجئ، وتدمير المستشفيات.. وإبادة عائلات بأكملها، ومحوها من السجل المدني، كعائلات زيادة والنجار. وهي أكبر حرب شهدها العالم من حيث ارتفاع نسبة الإصابات بين الأطفال". 

السياسة الحيوية عربياً

كان أبو ستة أول طبيب عربي يضع منهاجاً في طب النزاعات والحروب، وألف كتاباً بعنوان "إعادة بناء المريض المصاب في الحرب" انطلاقاً من عمله في معالجة مصابي الحرب من لبنان والعراق وسورية، ما دفعه لتأسيس جمعية لإصابات الحروب لدى الأطفال، بعد علاجه طفلة من حمص طار نصف وجهها، كما تحدث في الكتاب. كما أسس وأدار برنامج طب النزاعات في معهد الصحة العالمي في الجامعة الأميركية في بيروت، ومن خلاله قدم دراسات عن السياسات الحيوية لبعض الأنظمة العربية كالعراق وسورية وليبيا. ويكتب في هذا السياق: "تعتبر هذه الدول وغيرها أن تقديم الخدمات الطبية أهم أدوات الشرعنة للسلطة، فضلاً عن إنشاء طبقات موالية عبر التعليم المجاني، ومنه التعليم الطبي الذي استقطب عبر هذه الأنظمة طبقة من الريف والموالين الذين يمنحون علامات إضافية لدخول الكليات العلمية ومنها الطب". يذكر أن 60% من أطباء سورية هاجروا، كذلك 50% من أطباء العراق، فيما كانت النسبة 40% من أطباء ليبيا، والخسارة لن تكون قابلة للتعويض، إن عُوضت، إلا بعد جيل كامل. 
شارك مع الطبيب العراقي عمر ديوشي في عقد أول مؤتمر دولي لطب النزاعات عام 2016 في بيروت. ويقول عنه إن "طب النزاعات محاولة لفهم طريقة الصراع المسلح بإعادة رسم كل البنية الصحية، وليس فقط إصابات الشظايا والانفجار والرصاص. كيف يمكن أن نتصرف خلال الحروب؟ ماذا نفعل لمريض غسيل الكلى الذي سيموت خلال أسبوع في حال عدم الغسل؟ كيف نفهم الصحة النفسية في مكان كقطاع غزة أو العراق، تتكرر فيه التروما النفسية؟". 

غسان أبو ستة متطوعا في مستشفى الشفاء بغزة 2023
غسان أبو ستة متطوعاً في مستشفى المعمداني بغزة 2014(Getty)

ابتزاز الموت

كعادته لم يتأخر الدكتور أبو ستة عن تلبية نداء غزة خلال العدوان الحالي، قرأ المشهد ليلة 7 أكتوبر/تشرين الأول، وأدرك أن حرباً قاسية مقبلة على غزة، أراد أن يصل قبل أن تغلق إسرائيل المعبر، فاتصل بـ"أطباء بلا حدود"، وحجز تذكرة إلى مصر، ودخل من معبر رفح، استغرق وصوله لمستشفى الشفاء يوماً كاملاً، بسبب القصف الإسرائيلي. كان شاهداً على مجزرة مستشفى المعمداني، وعقد مؤتمراً صحافياً عقب المجزرة مباشرة، لينقل صورة الإجرام الصهيوني. كان قصف "المعمداني"، رغم تبعيته للكنيسة المعمدانية في بريطانيا، اختباراً إسرائيلياً لردة الفعل الدولية تجاه قصف المشافي، والتي كانت مشجعة لإسرائيل. جرى تبني الرواية الإسرائيلية عن صاروخ فلسطيني، ويسأل في هذا السياق: أي صاروخ تمتلكه المقاومة ويقتل 480 شخصاً بثانية واحدة؟ لم يقم أحد بالتحقيق مع المصابين ولا مع الأطباء في المستشفى! لم تقدم أية أدلة حسية أو منطقية! قصفت إسرائيل بعدها مشافي الأطفال، وقطعت أنابيب الأكسجين عن حواضن الأطفال الخدج بطريقة استعراضية، لزرع الهلع في نفوس الفلسطينيين.
استهدفت إسرائيل بشكل منهجي منظومة الصحة، وقتلت 280 مسعفاً وطبيباً وممرضاً، وأرادت خلق كارثة تستمر بعد الحرب، تقتل ما تستطيع، تجرح ما تستطيع، تترك الجرحى بإعاقات ودون علاج، إنه ابتزاز الموت. ويختم أبو ستة بأن الخيار هو بين الموت أو التهجير، والمفاجئ هو صمود الشعب الفلسطيني، وإصراره على عدم تجرّع ذل اللجوء ثانية.

المساهمون