- اعتقال الغنوشي في 17 إبريل 2022 وتوجيه تهم متعددة له ولقيادات أخرى، يُظهر توسع نطاق القمع ويعتبر منعطفًا في الصراع السياسي بتونس.
- اعتقال الغنوشي يُعد بداية لتفتيت حركة النهضة، مع استمرار إغلاق مقراتها ومنع مؤتمرها، مما يعمق الأزمة السياسية ويشير إلى تأثير القرارات السياسية على المعارضة.
مساء 25 يوليو/تموز 2021، كان رئيس حركة النهضة، رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، يقف أمام البرلمان الذي جمّده الرئيس التونسي قيس سعيّد، قبيل ساعات من انقلاب الأخير على الدستور، وكان الغنوشي يقول لرجال الجيش الواقفين على الجانب الآخر من الباب الحديدي المقفل "أنا رئيس المجلس أقف أمام المؤسسة التي أرأسها ويمنعني الجيش من دخولها". واستنكر الغنوشي استخدام الجيش لتنفيذ قرارات سعيّد التي قال إنها "تنتهك الدستور ومبادئ الثورة".
لم يكن سعيّد بحاجة إلى تلك اللحظة بالذات ليعرف أن القوة السياسية الأكبر التي يمكن أن تقف بوجه مشروعه هي الغنوشي وحركة النهضة، ولكن الرئيس التونسي كان يدرك قبل ذلك بأشهر أن الرجل الذي دعا حزبه للتصويت لصالح سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية هو المنافس الحقيقي له، وقد ولّد الصراع بينهما أزمة سياسية حقيقية في البلاد. بعد ذلك بأشهر، كان الغنوشي يقف مع عدد من الأحزاب والشخصيات اليسارية والليبرالية المهمة في البلاد، لتشكيل جبهة معارضة واسعة لسعيّد، تبيّن من خلال تظاهرات شعبية أنها القوة الأكبر التي يمكن أن تربك سعيّد ونظام حكمه، ولم ينتظر الأخير كثيراً لضربها في العمق واعتقال أغلب قياداتها وإقفال مقرات أحزابها.
في 17 إبريل/نيسان من العام الماضي (تزامن مع شهر رمضان) ألقت الشرطة التونسية القبض على الغنوشي واقتادته إلى مقراتها، ليتم إيداعه السجن، ويبدأ كيل التهم له تباعاً في أكثر من قضية، وهو ما اعتُبر تحولاً في الصراع السياسي في البلاد عموماً، وبين الرجلين خصوصاً. وبعد اعتقال الغنوشي، صار توقيف الناشطين والمدونين والشخصيات السياسية الأخرى أمراً مألوفاً وغير مستغرب.
ويقبع في السجن اليوم كل من الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق للتيار الديمقراطي غازي الشواشي، ورجل الأعمال كمال لطيف، وعضو جبهة الخلاص الوطني رضا بالحاج، والناشط السياسي في "مواطنون ضد الانقلاب" جوهر بن مبارك، والناشط السياسي خيام التركي، والنائب السابق عن ائتلاف الكرامة راشد الخياري، والنائب السابق وليد جلاد، والقاضيين بشير العكرمي والطيب راشد، ومحمد بن سالم وعبد الحميد الجلاصي (استقالا من النهضة) ورجل الأعمال والقيادي السابق في نداء تونس رضا شرف الدين، والصحافي محمد بوغلاب، والصحافية شذى مبارك، ومدونون وناشطون ومواطنون بسبب تدوينات اعتُبرت مسيئة للرئيس أو داعية للفوضى أو غيرها من التهم المماثلة. بالإضافة إلى من أطلق سراحهم ولكنهم ما زالوا تحت التتبعات، أو هم في حالة سراح، مثل رئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي، والمحامي الأزهر العكرمي، وعضو جبهة الخلاص شيماء عيسى، وعميد المحامين الأسبق عبد الرزاق الكيلاني، ومستشار الغنوشي، رياض الشعيبي، وغيرهم.
عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين، المحامي سمير ديلو، يقول في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن التهمة في القضية التي أودع بسببها الغنوشي السجن، تتعلق بالفصل 72 من المجلة الجزائية، أي محاولة تغيير هيئة الدولة، على خلفية الكلمة التي ألقاها في مسامرة رمضانية لجبهة الخلاص الوطني في رمضان 2023، ثم طاولته قضايا أخرى. ويبيّن ديلو أن "من بين القضايا الأخرى قضية شركة أنستالينغو (شركة إنتاج للمحتوى الرقمي، ووُجّهت له تهم الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة، وارتكاب اعتداء ضد أمن الدولة الداخلي وجرائم مالية، ضد عدد من العاملين بها والمتعاونين معها)، وصدرت في حقه بطاقة إيداع بالسجن من دون حضوره أمام القاضي، وقضية أخرى بسبب شكوى من نقابي أمني في تأبين أحد مناضلي الحركة"، مضيفاً أن "هناك حكمين أحدهما بسنة ونصف وتم نقضه، وحكم آخر بثلاثة أعوام".
ديلو: قرار سجن الغنوشي شكّل منعطفاً في الصراع السياسي
ويكشف ديلو أن "الغنوشي مصرّ على مقاطعة جلسات التحقيق، وهو قرار شخصي لا دخل للمحامين فيه، بل إن جزءاً كبيراً منهم لا يوافقه هذا القرار، ولكن الغنوشي يرى أن هناك ضغوطاً على القضاء، والقرار بسجنه قرار سياسي، وبالتالي كل الإجراءات مجرد خطوات إجرائية لا معنى لها، ولذلك يرفض حضور المحاكمات على الرغم من محاولات بعض المحامين ثنيه عن ذلك". ويلفت إلى أن "الأصل أن ينظر القضاء بشكل مستقل في القضايا، ولكن البطاقة الأولى التي صدرت ضد الغنوشي غير قانونية وكانت على خلفية موقف سياسي يحتمل الاختلاف والاتفاق في الرأي".
ويعتبر أن "قرار سجن الغنوشي شكّل منعطفاً في الصراع السياسي وقد فاجأ البعض، ولكن في ظل الظروف التي تعيشها البلاد وبما أن القضاء أصبح غير مستقل وعرف تجاذبات وإعفاءات عديدة، فإن كل شيء يصبح وارداً، ومن ذلك إيقاف الغنوشي". ويضيف: "بقطع النظر عن الخلاف الشخصي أو السياسي مع سعيّد، فقد مثّل إيقاف الغنوشي القطرة التي أفاضت الكأس، فهو شيخ عمره 83 عاماً ويشكو من أمراض عدة، وإبقاؤه طوال هذه الفترة في السجن غير مقبول، وكأن السلطة لا يزعجها كثيراً أن يموت في السجن".
وعن وضعه في السجن، يقول ديلو إن "الغنوشي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي طوفان الأقصى (عملية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال)، قرر الصيام التضامني مع غزة، وهو يقضي يومه داخل السجن في المطالعة، ولا يمكنه الكتابة بسبب وضع يده الصحي، وطالب بتمكينه من جهاز يمكّنه من الكتابة ولكنه لم يتلق أي إجابة". ويضيف أن "الغنوشي لا يختلط ببقية المساجين السياسيين، فهم ليسوا في الغرفة نفسها، بل يقبع كل منهم مع عدد من مساجين الحق العام".
أما التقارب الذي حصل مع بعض الشخصيات السياسية التي كانت على خلاف مع الغنوشي، على غرار الوزير الأسبق الأزهر العكرمي الذي نشر تدوينة مطولة بعد خروجه من السجن أشار فيها إلى هذا التقارب، فيقول ديلو عنه "ربما كانت الغرفة الأقرب إليه هي الغرفة التي أودع فيها الناشط السياسي الأزهر العكرمي، ولكن بعد الإفراج عنه أغلقت الغرفة، وحالياً الغنوشي هو الوحيد الذي ليس له رفاق في الغرفة المجاورة"، مؤكداً أن "بقية المساجين السياسيين في غرف صغيرة مع سجناء من الحق العام ولا يمكنهم لقاء بعضهم البعض".
وعن تأثير اعتقال الغنوشي على وضع المعارضة لسعيّد، يشير ديلو إلى أنه "بعد سنة من التضييق على المعارضة واعتقال قيادييها وضرب جهازها التنظيمي وإغلاق مقراتها، فقد تأثرت طبعاً وتراجعت، ولكن من الناحية المعنوية فإن اضطهاد المعارضة أمنياً وقضائياً (والذي كان جزء منه في الحكم) منحها نفساً جديداً وخرجت من موقع المساءلة وتحميل المسؤولية إلى شكل من أشكال المظلومية". ويضيف: "حالياً لا يوجد مشهد سياسي، بل هناك عزف منفرد، والرئيس شخص وحيد ولا يؤمن بالأحزاب، والمجلس النيابي الحالي هو مجرد غرفة تسجيل، وكل إمكانات البلاد مسخّرة لخدمة مشروع الرئيس الذي لا أحد يعرف تفاصيله، وفي كل بلدان العالم التي ستجري فيها انتخابات في 2024 فإن تونس البلد الوحيد التي لا يعلم أحد موعد الانتخابات". وحول موقف الغنوشي من الانتخابات الرئاسية المقبلة، يكشف ديلو أنه "التقى بالغنوشي منذ أسبوع، وهو يعتبر أن انتخابات من دون شروط تنافسية حقيقية لا تفتح على إمكانية التداول على السلطة بالصندوق ليست انتخابات، بل هي مجرد عملية اقتراع".
وكان اعتقال الغنوشي إيذاناً ببدء مرحلة تفتيت حركة النهضة، إذ لم يتوقف الأمر عند اعتقاله، فقد أوقفت السلطة قيادات أخرى كثيرة من الحركة بغية شلّها، قبل اعتقال الغنوشي وبعده، من بينها رئيس الحكومة الأسبق ونائب الغنوشي في "النهضة" علي العريض، ووزير العدل الأسبق ونائبه الثاني نور الدين البحيري، ورئيس مجلس الشورى عبد الكريم الهاروني، والقيادي المخضرم الحبيب اللوز، ونائبه الذي تولى إدارة "النهضة" بعد سجنه، منذر الونيسي، وقيادات إدارية ونواب سابقون عن "النهضة"، مثل الصحبي عتيق وفوزي كمون والبشير المشرقي وأحمد العماري. يُذكر أن الونيسي تولى في إبريل/نيسان من العام الماضي إدارة "النهضة" بالنيابة بعد سجن الغنوشي، ولكن تم سجنه هو أيضاً في سبتمبر/أيلول الماضي بسبب تسريبات صوتية منسوبة له. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت "النهضة" تولي العجمي الوريمي مهمة الأمانة العامة وإدارة الحركة، على الرغم من إغلاق مقراتها المتواصل منذ إبريل 2023. وكان يُفترض أن ينعقد مؤتمر "النهضة" نهاية العام الماضي، وبدأ الإعداد لذلك فعلاً، لكن اعتقال كل هذه القيادات وإغلاق المقرات إلى اليوم منعا انعقاده، مع العلم أن الغنوشي كان قد أكد أنه لن يترشح لرئاسة الحركة من جديد.
وعن دلالات اعتقال الغنوشي، يشير المتحدث الرسمي باسم حركة النهضة، عماد الخميري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أنه تم اعتقال الغنوشي من قبل فرق أمنية "بسبب تصريحات في مسامرة رمضانية لجبهة الخلاص الوطني حذّر فيها من الإقصاء، وحذّر من كل ما من شأنه أن يمس باستقرار البلاد ودعا إلى الوحدة الوطنية والتسامح". ويضيف أن "منظومة 25 يوليو أجابته في المقابل على ذلك بالاعتقال والزج به في قضية واهية"، مؤكداً أنهم ومنذ ذلك الوقت "اعتبروا هذا القرار جائراً وظالماً، واتُخذ ضد الغنوشي لا لشيء سوى لوجود قامة ورجل وقف ضد الانقلاب منذ اللحظة الأولى وقال إن هذا المسار خارج الدستور ولا توجد فيه أي مصلحة لتونس".
الخميري: منظومة 25 يوليو وأحزمتها من مكونات استئصالية لم تتحمّل وجود شخصية بحجم الغنوشي الذي وقف ضد الانقلاب
ويعتبر الخميري أن "منظومة 25 يوليو وأحزمتها من مكونات استئصالية لم تتحمّل وجود شخصية بحجم الغنوشي الذي وقف ضد الانقلاب، لأنه عرّى هذه المنظومة، وبيّن منذ أيامها الأولى إفلاسها وخروجها عن الشرعية والمشروعية"، مؤكداً أنه "منذ ذلك الوقت التحقت عدة أصوات بهذا الصوت الحر ووقفت بوجه 25 يوليو". ويلفت إلى أن "كل منظومة استبدادية ترفض أن يكون إلى جوارها أصوات حرة تحذر من الانحراف بالحكم ومن السلطة التي لا تمتلك مشروعاً، وتحذر من هذا الانحراف الذي مسّ قوت الناس ومقدراتهم الشرائية"، مبيناً أنه "ككل الأنظمة الاستبدادية فإنها تميل إلى استعمال القبضة الحديدية وأدوات الدولة ضد خصومها السياسيين". ويشير إلى أن "الاستبداد لا يديم حكماً، والزج بالسياسيين في السجون لن يقود إلى حكم عادل، ولكن أين العقل من هذا الخطاب".
من جهته، يعتبر الأمين العام لحركة النهضة العجمي الوريمي أن "اعتقال الغنوشي قبل عام جاء بقرار سياسي وبسبب مواقفه السياسية ومعارضته للانقلاب"، مضيفاً في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "الغنوشي تمسك بشرعية البرلمان وبالدستور، وهو معتقل سياسي". ويلفت إلى أن سعيّد صرح منذ أيام في المنستير "بأن السلطة لا يمكن أن ترضي الجميع وأن المعارضة مشروعة والاحتجاج كذلك، ما يعني أن الموجودين اليوم في السجون مكانهم ليس هناك لأنهم قاموا بواجبهم"، مشيراً إلى أن "المعارضة لا تعارض داخل السجن وإنما تعارض في الساحات وداخل المؤسسات ودفاعاً عن الشعب والمكتسبات"، مضيفاً أنه "بعد عام من هذه المظلمة حان الوقت لكي ترفع".
ويؤكد الوريمي أن "اعتقال الغنوشي أثّر طبعاً على حركة النهضة وعلى المعارضة ككل، ولكن كما صرح الغنوشي فإن سجنه لن يؤدي إلى خفض الأسعار، وبالتالي لم تكسب البلاد أي شيء من اعتقال الغنوشي بل بالعكس، تعمّقت الأزمة ودخلت البلاد في أزمة".
الوريمي: اعتقال الغنوشي قبل عام جاء بقرار سياسي وبسبب مواقفه السياسية ومعارضته للانقلاب
وفي السياق، يوضح القيادي في "النهضة" بلقاسم حسن لـ"العربي الجديد" أن "الغنوشي معتقل منذ سنة ويقبع وراء القضبان لأنه رمز ومنافس سياسي وخصم عتيد"، مضيفاً أن "الغنوشي يمثل أكبر حزب في تونس، وهو رئيس برلمان شرعي ومتمسك بالشرعية وبالديمقراطية، واعتُقل لأنه قال لا للانقلاب". ويضيف حسن أن "الغنوشي يؤمن بالحوار لا بالانقلاب، وبالحوار يمكن تعديل أوتار التجربة الديمقراطية لا الإجهاز عليها، ولهذه الأسباب هو في السجن، وكذلك بقية المعتقلين، ولكن مآل الانقلاب إلى زوال".