أثار تحقيق صحيفة نيويورك تايمز الأميركية بشأن مقتل عشرات المدنيين في غارة على منطقة الباغوز السورية، آخر معقل لتنظيم "داعش"، جدلاً عن مدى التزام التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن بالتصريح عن عدد ضحايا حملته الجوية، وكالعادة أغفل النقاش بشأن "الأضرار الجانبية" للقصف الجوي الأميركي مسألة التعويض المادي للضحايا.
ودفع التحقيق وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لإجراء "مراجعة" في الضربات التي حصلت عام 2019، وقال المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي أول أمس الاثنين للصحافيين "سيكون أمام الجنرال مايكل جاريت، قائد قيادة قوات الجيش الأميركي، 90 يوما لإنجاز المراجعة بشأن سقوط القتلى المدنيين".
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد ذكرت أن الضربة الأميركية في الباغوز شرقي سورية أسفرت عن مقتل ما يصل إلى 64 طفلا وامرأة خلال المعارك ضد "داعش".
اعترفت واشنطن بقتل 1410 مدنيين في العراق وسورية ضمن عملية "العزم الصلب"، ضد تنظيم "داعش"، في الفترة بين أغسطس/آب 2014 ونوفمبر/تشرين الثاني 2020، عقب أكثر من 34 ألف غارة جوية، وذكر تقرير صادر عن قوة المهام المشتركة أنه تلقّى أكثر من 135 تقريراً "مفتوحاً" لا يزال قيد التحقيق عن غارات تسببت بضحايا بعضها يعود إلى صيف 2015، ولم يشر التقرير المفصّل إلى آلية تعوض ذوي القتلى أو حتى إلى عدد المصابين.
دفع الجيش الأميركي ما يصل إلى مليوني دولار على شكل مدفوعات تعزية للمدنيين في أفغانستان بين عامي 2015 و2020، وفق تحليل نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، وتفاوتت المبالغ المدفوعة بشكل كبير وتراوحت ببين 131 دولاراً و40 ألف دولار. دفع الجيش الأميركي أيضاً ست مدفوعات تعزية في العراق تتراوح بين 1500 دولار و10000 دولار، في حين لم يتم الإبلاغ عن أي مدفوعات في سورية.
وصف البنتاغون المدفوعات بموجب مبادئ توجيهية بأنها تهدف إلى تأمين "علاقات ودية مع السكان المحليين ودعمهم"، وقال إنها ليست "اعترافاً بارتكاب مخالفة وليست لغرض تعويض الضحية أو أسرة الضحية عن خسارتهم".
وتشير دافني إيفياتار مديرة الأمن لبرنامج حقوق الإنسان في منظمة العفو الدولية إلى أن تركيز البنتاغون على فكرة امتصاص غضب السكان في المناطق التي تنتشر فيها قوات أميركية قلّل من أهمية "دفع تعويضات" في سورية، حيث تعتمد واشنطن على الغارات الجوية لا على قوات في الميدان.
وخصّص الكونغرس الأميركي في قانون تفويض الدفاع للعام 2020 للبنتاغون 3 ملايين دولار لتُدفع كتعويضات للمدنيين المتضررين من عمليات واشنطن العسكرية في الخارج، لكن البنتاغون لم يصرف أي دولار من هذه الميزانية ورُدّت إلى وزارة الخزانة، بحسب تقرير له اعترف بوقوع قتلى في العراق وسورية وأفغانستان.
وأثار تقرير البنتاغون حفيظة السيناتور إليزابيث وارين وقالت في جلسة للكونغرس الصيف الماضي إن الوزارة فشلت في دفع التعزية للأسر المكلومة. وأضافت عضو لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ "هذا أمر غير مقبول وليس من الطرق المثلى التي نحافظ بها على قيم أمتنا ومصالحنا في الخارج، يبدأ إنهاء الحروب بالاعتراف بإنسانية الناس الذين أضرّت بهم هذه الحروب". تابعت عضو الكونغرس "إن البنتاغون يأتي دائماً متسوّلًا للمليارات، لكن في العام الماضي لم ينفقوا فلساً واحداً من هذا الصندوق الذي أنشأه الكونغرس للمساعدة في الوفاء بمسؤوليتنا الأخلاقية وبناء النيّات الحسنة في جميع أنحاء العالم".
التحالف لم يدفع تعويضات في سورية، لذوي الضحايا أو المصابين إلا في هجوم يناير/كانون الثاني 2019 الجوي على الكشكية بدير الزور
ويؤكد ناشطون سوريون ومنظمة "هيومن رايتس ووتش"، أن التحالف لم يدفع تعويضات في سورية، لذوي الضحايا أو المصابين إلا في هجوم يناير/كانون الثاني 2019 الجوي على الكشكية بدير الزور، حينها تلقى أبناء قبيلة الشعيطات، التي تؤيد "قوات سورية الديمقراطية"، 80 ألف دولار عقب مقتل 11 مدنياً، بينهم 4 أطفال من نفس العائلة.
وسجلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 3039 مدنياً، بينهم 924 طفلاً، و656 سيدة على يد قوات التّحالف الدولي منذ تدخلها العسكري في سورية في 23 سبتمبر/أيلول 2014 حتى 23 سبتمبر 2020، مشيرة إلى أنه منذ نهاية عام 2016 أصبحت هجمات التحالف أكثر عشوائية، وقد تسبَّبت هذه الهجمات في قرابة 79% من حصيلة الضحايا الذين سجل التقرير مقتلهم في السنوات الست الماضية.
وتقول منظمة العفو الدولية "إن أكثر من 1600 مدني لقوا حتفهم في الرقة وحدها التي وجد أهلها أنفسهم بين شقي رحى، إذ تعذر عليهم الفرار بسبب نيران قناصة تنظيم "داعش" وألغامهم الأرضية، بينما راحت نيران القصف الجوي والمدفعي المتهور من جانب قوات التحالف تحصد أرواحهم في بيوتهم".
أرقام "أكبر بكثير"
الصحافي عهد الصليبي من دير الزور تحدّث عن ذات الرقم الذي توصلّت إليه المنظمة الدولية 1600 ضحية في الرقة، لكنه أشار إلى أن العدد الحقيقي ممكن أن يكون أكبر بكثير، بسبب اكتشاف مقابر جماعية بين الحين والآخر، لافتاً إلى أن القتلى قد يكونون إما ضحايا التحالف أو "داعش" و"قسد"، أما عن محافظتي الحسكة ودير الزور فقد أحصى نشطاء المنطقة نحو 2000 قتيل خلال معارك التحالف و"قسد" ضد تنظيم "داعش"، وما تزال هناك مقابر جماعية وجثث في الأراضي الزراعية مجهولة. وفقَ الصليبي.
وأضاف لـ"العربي الجديد": "لم نسمع عن تعويض لعائلات الضحايا، لكن تم تسجيل حالة تعويض واحدة لعائلة سقط لها قتلى خلال إنزال جوي في الريف الشرقي لدير الزور، لكن العملية لم تعرف تفاصيلها".
ورأى الصليبي أن اعتراف التحالف بالمجازر التي ارتكبها يترتب عليه مسؤولية قانونية تتجاوز موضوع التعويض، ويمكن أن تصل إلى نقل ذوي الضحايا أو المصابين إلى أميركا لتقديم العلاج لهم أو حمايتهم، وذلك بعد أن هجِّروا من منازلهم إثر الغارات، وخسروا أبسط مقومات الحياة بعد أن أصبحوا نازحين أو محتجزين في مخيمات قسد.
في السياق ذاته، أكد جلال الحمد، مدير "مرصد العدالة من أجل الحياة في دير الزور"، لـ"لعربي الجديد"، أنه "لم يتم تسجيل أي حالة تعويض سوى حادثة الكشكية"، مشيرا إلى عدم ورود أي معلومات تؤكّد تسليم المبلغ، كونه لا توجد آلية واضحة لتعويض ذوي الضحايا.
وتابع "يتوجّب أن يكون هناك عملية إحصاء جديّة وممنهجة للضحايا تدفع البنتاغون للاعتراف بالقتلى والتعامل مع القضية".
كما حثّ الحمد ذوي الضحايا على إيصال قضيتهم إلى المنظمات الحقوقية ذات المصداقية لمناصرتهم، داعياً إلى التنسيق في ما بينهم لتشكيل رأي عام داعم ونقله لجهات دولية.
مشكلة آلية تنفيذ التعويض
فيما رأى فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن قضية تعويض التحالف لضحاياه في سورية موضع اهتمام الشبكة منذ 2014، مضيفاً أن الشبكة طالبت بتعويض الضحايا وبإعادة إعمار البنية التحتية التي دمرتها قوات التحالف.
وتابع عبد الغني لـ"العربي الجديد"، أن التحالف "كان يتحجّج بالعمليات العسكرية لكن منذ انتهائها 2019 لم يعوّض أحداً من أهالي الضحايا ولا المصابين"، ولفت إلى أن المشكلة الكبرى تكمن بآلية تنفيذ التعويض، ذلك أن القوة الوحيدة الموجودة على الأرض والتي من الممكن أن يكون التنفيذ عن طريقها "قسد" متهمة بانتهاكات وقضايا فساد بحسب تقارير للخارجية الأميركية، ولذلك هي غير أهل لهذه المهمة".
ولفت إلى أنه "من الضروري إيجاد سلطة منتخبة وشرعية لتشرف على عمليات التنفيذ".