حاولت الإدارة الأميركية، أمس الخميس، إظهار عملية تبادل اثنين من السجناء بين واشنطن وموسكو، أنها خطوة فارقة، وهو حدثٌ لم يكن متوقعاً إتمامه بهذه السرعة، خصوصاً في ضوء التوتر وشبه القطيعة بين العاصمتين، إلا أنه يشير إلى محاولة أميركية بالتلميح نحو التفاوض مع روسيا.
إنجاز عملية التبادل وسط هذه الظروف الصعبة، جعل الحدث مميزاً وعزّز من وضع الرئيس الأميركي جو بايدن، المنتعشة صورته بشكل ملحوظ هذه الأيام، إذ كان واضحاً أن رياح التطورات والاستحقاقات التي تلاحقت في الفترة الأخيرة هبت لصالحه، ومع أن مثل هذه المبادلة صارت مألوفة وجرت بين دول عدة، منها أميركا وفي عهد إداراتٍ سابقة، إلا أنها هذه المرة بدت وكأن لها نكهة مختلفة، لأنها جاءت في سياق إشارات متوالية في الآونة الأخيرة، وضعت في خانة "توفير الشروط" للانتقال بملف حرب أوكرانيا من الميدان إلى الطاولة، على حد تعبير رئيس مجلس العلاقات الخارجية (مركز أبحاث يهتم بالسياسة الخارجية الأميركية والشؤون الدولية) ريتشارد هاس.
قد يكون هذا التزامن صدفة، لكن العملية بالصورة التي جرت فيها، بدت وكأنها كانت خطوة محسوبة لتشجيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الرد عليها بخطوة أخرى توسّع من فتحة الخطوط المؤدية إلى خيار الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن، بالتحديد في ملف حرب أوكرانيا.
بدأت الإشارات اللافتة في هذا الاتجاه في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما وصف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الرئيس بوتين بأنه رجل "عقلاني" مع أنّ قراراته "ليست كذلك". توصيف بلينكن هذا الذي جاء من خارج السياق، ربط بخيار التفاوض، خاصة وأنّ الوزير تعمّد آنذاك التذكير بأنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير "زيلينسكي نفسه سبق وقال إنه سيتفاوض واختار الدبلوماسية"، وكأن كلامه كان موجهاً في جانب منه إلى الرئيس الاوكراني للإشارة إلى وجوب البدء في وضع نفسه في مناخات التحضير لمخرج سياسي لا بد وأن تنتهي إليه الحرب.
تبع ذلك وقوع حادثة انفجار صاروخ داخل أراضي بولندا العضو في حلف شمال الأطلسي، حينها اتجهت الظنون والترجيحات في البداية إلى أن يكون الصاروخ روسياً بدافع "الاستفزاز" وجس نبض الحلف. وكان متوقعاً وقتها أن يرد الحلف بالمثل ضد القوات الروسية، عملاً بالمادة 5 من ميثاقه، كما بتعهد الرئيس بايدن بالدفاع عن "كل ذرة" من أراضي الحلف، لكن بعد حوالى يومين ساد الارتباك، وخلص الحلف إلى اعتبار انفجار الصاروخ حادثة وقعت عن طريق الخطأ من جانب القوات الأوكرانية لا الروسية.
أثار هذا القرار الشكوك وعلامات الاستفهام، وحصل حوله كثير من الجدل، كما ولفت إلى أنّ بايدن لم يتحدث في هذا الخصوص مع نظيره الأوكراني الذي رفض تقدير "الناتو" حول هوية الصاروخ، الأمر الذي بدا وكأنّ الحلف اعتمد تخريجة لتحاشي التصعيد الذي يهدد احتمالات التفاوض ولو غير القريب.
عزز هذا الطرح ما قاله بايدن بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأسبوع الماضي، من أنّ إدارته "جاهزة للانخراط بدبلوماسية التفاوض، إذا أبدى الرئيس الروسي استعداده في هذا الخصوص، بما في ذلك التباحث المباشر بينه وبين بوتين". أيضاً توقف المراقبون عند كلام بايدن، الذي جرى اعتباره بمثابة خطوة متقدمة باتجاه فتح جسر العبور إلى غرفة المساومة السياسية، ولو أنّ الإدارة الأميركية سارعت إلى وضع كلام الرئيس في إطار "إذا" الشرطية، لفهم تصريحه بأنه رسالة إلى موسكو، وخاصة أنه حصل أثناء وجود ماكرون، وكأنه جاء تعبيراً عن الأجواء السائدة لدى حلف الأطلسي، لا سيما وأن الحديث تزايد في المدة الأخيرة عن تذمر الأوروبيين مع دخول فصل الشتاء وتزايد الإلحاح في صفوفهم على تسريع التحضيرات لإنهاء الحرب.
على هذه الخلفية، جاءت عملية التبادل التي ستساهم في ترطيب الأجواء، وإن بالحد الأدنى بين موسكو وواشنطن، خصوصاً وأنّ هناك تلميحات وترجيحات تفيد بأنّ الموقوف الأميركي الآخر بول واهلن، الذي لم تشمله صفقة الخميس، سيتم الإفراج عنه في وقت "غير بعيد".
حاول بايدن في كلمته، الخميس، أن يرد على هذه التساؤلات التي استغربت قبول الإدارة الأميركية بصفقة غير متوازنة، حيث جرى استبدال الموقوف الروسي "الخطير" لديها، والمحكوم بالسجن لمدة 25 سنة، بموقوف أميركي واحد (لاعبة كرة السلة بريتني غرينر) من دون الآخر، علماً بأن السجين الروسي لدى واشنطن فيكتور بوت، تاجر سلاح "ويحمل معلومات استخباراتية روسية" بحسب السفير الأميركي السابق في موسكو مايكل ماكفول، ويشكل استرجاعه "أولوية لموسكو".
من التفسيرات التي شاعت بعد كلمة بايدن، أنّ الإدارة الاميركية مضت بالمبادلة بشكلها الراهن من منطلق أنها تحاول كسر الجمود بين موسكو وواشنطن، وبما يمكن توظيفه لخلق شيء من الاسترخاء في العلاقات، لعلّ هذا الحدث، سيكون بوابة دخولٍ أساسية لحلحلة متوقعة باتجاه التفاوض مع موسكو، مع قدوم الربيع المقبل.
ومن المنطقي أن تدفع إدارة بايدن في هذا الاتجاه، إذ إنّ بايدن الآن في ربيع إدارته، حيث تغيرت ديناميكية الوضع السياسي الداخلي لصالحه غداة الانتخابات النصفية، وما رافقها من تقلص وتراجع متزايد لحضور سلفه دونالد ترامب، الذي تدفقت خسائره الانتخابية والقضائية بقوة في الأسابيع القليلة الماضية، لهذا فإنّ بايدن قد يكون في موقع جيد الآن للضغط باتجاه التمهيد للخروج من حربٍ يخاف أن يتعب منها الرأي العام الأميركي (الذي ما زال يدعمها بأكثرية 57%) كما سبق وتعب من غيرها؛ خاصة وأنّ بوتين قد تعب منها هو الآخر، وفق الكثير من التقديرات الأميركية التي تتحدث عن "النقص في ذخيرته الحربية" وعن اقتراضه مبلغ "12 مليار دولار" لتمويل حربه.